فإن قيل: فما الأفضل أن يُهدَى إلى الميت؟
قيل: الأفضل ما كان أنفعَ في نفسه. فالعِتْقُ عنه والصدقةُ أفضلُ من الصيام عنه. وأفضلُ الصدقة ما صادفتْ حاجةً من المتصدَّق عليه، وكانت دائمة مستمرَّة.
ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصدقةِ سَقْيُ الماء». وهذا في موضع يقِلُّ فيه الماء، ويكثُر فيه العطش؛ وإلا فسَقْيُ الماء على الأنهار والقُنِيِّ لا يكون أفضلَ من إطعام الطعام عند الحاجة.
وكذلك الدعاء والاستغفار له إذا كان بصدقٍ من الداعي وإخلاص وتضرُّع، فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه، كالصلاة على جنازته، والوقوف للدعاء على قبره.
وبالجملة، فأفضلُ ما يُهدَى إلى الميت: العِتْق، والصدقة، والاستغفار له، والدعاء له، والحجُّ عنه.
وأمَّا قراءةُ القرآن وإهداؤها له تطوعًا بغير أجرة، فهذا يصل إليه، كما يصل ثوابُ الصوم والحجِّ.
فإن قيل: فهذا لم يكن معروفًا في السلف، ولا يمكن نقلُه عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير، ولا أرشَدهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليه. وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحجِّ والصيام، فلو كان ثوابُ القراءة يصل لأرشدَهم إليه، ولكانوا يفعلونه.
فالجواب: أنَّ مُوردَ هذا السؤال إن كان معترِفًا بوصول ثواب الحجِّ والصيام والدعاء والاستغفار، قيل له: ما هذه الخاصيَّة التي مَنعتْ وصولَ ثواب القرآن، واقتضَتْ وصول ثواب هذه الأعمال، وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات! وإن لم يعترِفْ بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف، فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويُهدي إلى الموتى، ولا كانوا يعرفون ذلك البتة، ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم، ولا كان أحدهم يُشهِد من حضرَه من الناس على أنَّ ثواب هذه القراءة لفلان الميت، بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم.
ثم يقال لهذا القائل: لو كُلِّفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال: اللهم ثوابُ هذا الصوم لفلان لعجزتَ، فإنَّ القومَ كانوا أحرصَ شيء على كتمان أعمال البرِّ، فلم يكونوا لِيُشهِدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم.
فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدَهم إلى الصوم والصدقة والحجِّ دون القراءة.
قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرجَ الجواب لهم، فهذا سأله عن الحجِّ عن ميته، فأذِنَ له، وهذا سأله عن الصيام، فأَذِنَ له، وهذا سأله عن الصدقة فأَذِنَ له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك. وأيُّ فَرْقٍ بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرَّدُ نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟
والقائل: إنَّ أحدًا من السلف لم يفعل ذلك قائلٌ ما لا علْمَ له به، فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه. فما يُدريه أنَّ السلف كانوا يفعلون ذلك، ولا يُشهِدون من حضَرَهم عليه، بل يكفي اطِّلاع علَّام الغيوب على نيَّاتهم ومقاصدهم، لا سيَّما والتلفظُ بنيَّة الإهداء لا يُشترَط، كما تقدم.
وسِرُّ المسألة: أنَّ الثوابَ مِلكٌ للعامل، فإذا تبرَّع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله إليه. فما الذي خَصَّ من هذا ثوابَ قراءة القرآن، وحجَرَ على العبد أن يُوصله إلى أخيه؟ وهذا عملُ الناس حتى المنكرين في سائر الأعصار والأمصار من غير نكيرٍ من العلماء.
الروح (2/ 415 – 418 ط عطاءات العلم)