*فهد بن عبد العزيز بن عبد الله الشويرخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فمن علماء السلف المتقدمين الذين لهم باع في التصنيف في مختلف الفنون: العلامة ابن القيم رحمه الله، وتتميز مصنفاته بعددٍ من المميزات؛ منها: حصره لأسباب الشيء، أو فوائده، أو مراتبه، أو أنواعه، ونحو ذلك، في عدد معين: ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، عشرة...إلخ، مما يجعله يرسخ في الذهن، ويسهل تذكره واسترجاعه.
وقد يسَّر الله الكريم لي فجمعتُ بعضًا من المسائل التي حصرها في عشرة، وقد ذكرت في نهاية كل مسألة، اسم الكتاب الذي نقلتُ منها بالجزء والصفحة، مع ملاحظة أن جميع الإحالات على طبعة مجمع الفقه الإسلامي، ما عدا كتاب "زاد المعاد"، فعلى الطبعة الرابعة عشرة لمؤسسة الرسالة بلبنان، هذا وأسأل الله الكريم أن ينفع الجميع بها.
الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أُريد به.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حالٍ: باللسان والقلب، والعمل، والحال.
الرابع: إيثار محابِّه على محابِّك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها.
السادس: مشاهدة بِره وإحسانه وآلائه ونِعمه الباطنة والظاهرة.
السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بين يديه.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرت كلماتهم.
العاشر: مباعدة كل سببٍ يحول بين القلب وبين الله عز وجل؛ [مدارج السالكين:3/381].
أسباب تمحو الذنوب:
• التوبة النصوح.
• الاستغفار.
• الحسنات الماحية.
• المصائب المكفِّرة.
• دعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم.
• الامتحان في البرزخ.
• وفي موقف القيامة.
• شفاعة من يأذن الله له في الشفاعة.
• صدق التوحيد.
• رحمة أرحم الراحمين.
فهذه عشرة أسباب تمحو أثر الذنوب.
[إعلام الموقعين:3/212].
مراتب الجود:
إحداها: الجود بالنفس، وهو أعلى المراتب.
الثانية: الجود بالرئاسة... والإيثار في قضاء حاجة الملتمس.
الثالثة: الجود بالعلم وبذله، وهو أعلى مرتب الجود، والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال.
الرابعة: الجود بالنفع بالجاه؛ كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه.
الخامسة: الجود بالصبر والاحتمال والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه... ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.
السادسة: الجود براحته ورفاهيته وإجمام نفسه، فيجود بها نصبًا وكدًّا في مصلحة غيره.
السابعة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه.
الثامنة: الجود بالعرض؛ كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنه، كان إذا أصبح قال: اللهم إنه لا مال لي فأتصدق به الناس، وقد تصدَّقت عليهم بعرضي، فمن شتمني أو قذفني فهم في حلٍّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم)، وفي هذا الجود من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق.
التاسعة: الجود بالخُلُق والبشر والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وهو أثقل ما يوضع في الميزان... والعبد لا يمكنه أن يسعَ الناس بماله، ويُمكنُه أن يسعهم بخُلقه واحتماله.
العاشرة: الجود بترفيه ما في أيدي الناس عليهم، فلا يلتفت إليه، ولا يتشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله ولا لسانه؛ [مدارج السالكين:3/6].
أشياء ضائعة لا ينتفع بها:
• علم لا يُعمل به.
• عمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء.
• مال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة.
• قلب فارغ من محبة الله، والشوق إليه، والأنس به.
• بدن معطل من طاعته وخدمته.
• محبة لا تتقيدُ برضا المحبوب، وامتثال أوامره.
• وقت معطل عن استدراك فارط، أو اغتنام بر وقُربة.
• فكر يجول فيما لا ينفع.
• خدمة من لا تُقربك خدمتهُ إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك.
• خوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.
وأعظم هذه الإضاعات إضاعتان هُما أصل كل إضاعةٍ: إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد كلُّه في اتباع الهوى وطول الأمل، والصلاحُ كلُّه في اتباع الهدى والاستعداد للقاء؛ [ الفوائد:162].
أشياء يؤذي انحباسها ومدافعتها:
الدم إذا هاج، والمني إذا تبيَّغ.
والبول، والغائط، والريح، والقيء، والعطاس، والنوم، والجوع، والعطش.
وكل واحد من هذه العشرة يُوجب حبسهُ داء من الأدواء بحسبه؛ [زاد المعاد:4/7].
فوائد غضِّ البصر:
أحدُها: تخليص القلب من ألم الحسرة، فإن من أطلق نظره دامت حسرته، فأضرُّ شيءٍ على القلب إرسال البصر، فإنه يُريه ما يشتدُّ طلبُه، ولا صبر له عنه، ولا وصول له إليه، وذلك غاية ألمه وعذابه.
الفائدة الثانية: أنه يورث القلب نورًا، وإشراقًا في العين، وفي الوجه والجوارح.
الفائدة الثالثة: أنَّه يُورث صحة الفراسة، فإنها من النور وثمراته، وإذا استنار القلب صحت الفراسة؛ لأنه يصيرُ بمنزلة المرآة التي تظهرُ فيها المعلوماتُ كما هي.
الفائدة الرابعة: أن يفتح له طرق العلم وأبوابه، ويسهل عليه أسبابه، وذلك بسبب نور القلب.
الفائدة الخامسة: أنَّه يُورث قُوَّة القلب، وثباته، وشجاعته.
الفائدة السادسة: أنه يُورث القلب سرورًا، وفرحةً، وانشراحًا أعظم من اللذَّة والسرور الحاصل بالنظر، وذلك لقهره عدوه بمخالفته، ومخالفة نفسه وهواه.
الفائدة السابعة: يخُلِّصُ القلبَ من أسر الشَّهوة، فإن الأسير هو أسيرُ شهوته وهواه.
الفائدة الثامنة: أنَّه يسدُّ عنه بابًا من أبواب جهنم، فإن النظر بابُ الشهوة الحاملة على مواقعة الفعل.
الفائدة التاسعة: أنه يقوِّي عقله، ويزيده، ويثبته.
الفائدة العاشرة: أنه يخُلِّص القلب من سُكر الشَّهوة، ورَقْدة الغفلة، فإن إطلاق البصر يُوجب استحكام الغفلة عن الله، والدار الآخرة، ويوقع في سكر العشق.
وفوائد غضِّ البصر وآفات إرساله أضعافُ أضعاف ما ذكرنا، وإنما نبهنا عليها تنبيهًا؛ [روضة المحبين:153]، وذكر عشر فوائد في [الداء والدواء:415].
فوائد إخفاء الدعاء:
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:
أحدها: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمعُ دعاءه الخفيَّ.
ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تُسألُ برفع الأصوات، وإنما تخفض عندهم الأصوات، ويخفى عندهم الكلام بمقدار ما يسمعوه.
ثالثها: أنه أبلغُ في التضرع والخُشوع الذي هو رُوح الدعاء ولُبُّهُ ومقصوده.
رابعها: أنه أبلغُ في الإخلاص.
خامسها: أنه أبلغُ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه.
سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدًّا، أنه دال على قرب صاحبه من الله، فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.
سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يملُّ والجوارح لا تتعب.
ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد من القواطع والمشوشات والمضعفات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد... وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والإنس، فشوَّشت عليه ولا بد، ومانعته وعارضته.
تاسعها: أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه، والتبتلُ إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها دقَّت أو جلَّت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة... وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد.
عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، فهو ذكر وزيادة، وقد قال تعالى: ﴿ وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ ﴾ [الأعراف/205]، فأمر نبيه أن يذكره في نفسه؛ [بدائع الفوائد:3/842].
أنواع البكاء:
البكاء أنواع:
أحدها: بكاء الرحمة، والرقة.
الثاني: بكاء الخوف والخشية.
الثالث: بكاء المحبة والشوق.
الرابع: بكاء الفرح والسرور.
الخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.
السادس: بكاء الحزن.
والفرق بينه وبين بكاء الخوف، أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه، أو فوات محبوب، وبكاء الخوف يكون لِما يتوقع في المستقبل من ذلك.
والفرق بين بكاء السرور والفرح، وبين بكاء الحزن، أن دمعة السرور باردة، والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارة، والقلب حزين.
السابع: بكاء الخَور والضَّعف.
الثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيُظهر صاحبهُ الخشوع، وهو من أقسى الناس قلبًا.
التاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة.
العاشر: بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجُلُ الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي؛ [زاد المعاد 1/184].
حروز يستدفع بها شر الشيطان:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى:﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت:36].
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين [الفلق، والناس].
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة.
الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.
الحرز السابع: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) مائة مرة.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان، وهو كثرة ذكر الله عز وجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة، وهذا من أعظم ما يتحرز به منه، ولا سيما عند ثوران قوة الغضب والشهوة... فإنها نار والوضوء يُطفئُها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها... أذهبت ذلك كله، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما يتسلط على آبن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة؛ [بدائع الفوائد:2/809].
ملحوظة: الحرز السادس: ذكر فيه قراءة أول سورة "حم" إلى الآية الثالثة مع قراءة آية الكرسي، لحديث عند الترمذي، في سنده عبدالرحمن بن أبي بكر المليكي، قال الإمام الترمذي: "هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبدالرحمن بن أبي مليكة المُلكي من قبل حفظه".
وقد ضعف الحديث العلامة الألباني برقم (544) في ضعيف الترمذي.
أسباب يندفعُ بها شر الحاسد عن المحسود:
أحدها: التعوذ بالله تعالى من شره، والتحصن به، واللجأ إليه.
السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى الله حفظه.
السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقابله ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نُصِرَ على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه.
السبب الرابع: التوكل على الله، فـ ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفعُ بها العبد ما لا يُطيقُ من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، فإن الله كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه، فلا مطمع فيه لعدو.
السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به، والفكر فيه، فإذا خطر بباله بادَر إلى محو ذلك الخاطر، والاشتغال بما هو أنفع له وأولى به، وهذا باب عظيم النفع، لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العلية.
السبب السادس: الإقبال على الله والإخلاص له، فما سعادة من دخل في هذا الحصن.
السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطن عليه أعداءَه... فما سُلِّط على العبد من يؤذيه إلا بذنبٍ يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبدُ من ذنوبه أضعافُ ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله وعلمه أضعاف ما يذكره، فليس للعبد إذا بُغي عليه وأُوذي، وتسلَّط عيه خصومُه، شيءٌ أنفعُ له من التوبة النصوح، وعلامة سعادته أن يعكس فِكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها، والله يتولى نُصرتهُ وحفظه والدفع عنه ولا بُدَّ، فما أسعده من عبدٍ، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن أثرها عليه، ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا مُعطي لما منع، فما كلُّ أحد يُوفَّقُ لهذا.
السبب الثامن: وهو من أصعب الأشياء على النفس وأشقِّها عليها، ولا يوفَّق له إلا من عظُم حظُّه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا، ازدادت إليه إحسانًا وله نصيحة وعليه شفقة.
واسمع ما الذي يُسهِّل هذا على النفس، ويُطيبه لها وينعمها به: اعلم أن لك ذنوبًا بينك وبين الله تخافُ عواقبها، وترجوه أن يعفو عنها، ويغفرها لك، ويهبها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة، حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تُؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابلك به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقهُ وتقابل به إساءتهم، ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل.
السبب التاسع: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، وشر الحاسد.
السبب العاشر: تجريد التوحيد والتَّرحُّل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح، وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها، لا تضرُّ ولا تنفعُ إلا بإذنه، فهو الذي يمسُّ عبده بها؛ قال تعالى: ﴿ وَإِن يَمسَسكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ وَإِن يُرِدكَ بِخَيرٍ فَلا رادَّ لِفَضلِهِ ﴾ [يونس/107]، فإذا جرد العبدُ التوحيد، فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى، والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدفع عن الذين آمنوا، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مُزج له؛ [بدائع الفوائد:2/764].
أسباب الصبر على المعصية:
الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: علمُ العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانةً لعبده وحمايةً عن الدنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره، وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلَّق عليها وعيدٌ بالعذاب.
السبب الثاني: الحياء من الله عز وجل، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومستمع، وكان حيًّا حييًّا، استحيا من ربه أن يتعرض لمساخطه.
السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنبًا إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه.
السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده، والإيمان به وبكتابه ورسوله، وهذا السبب يَقْوى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28].
السبب الخامس: قِصَرُ الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، فهو حريص على ترك ما يضره.
السبب السادس: محبة الله سبحانه، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه، فإن المحبَّ لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة في القلب، كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها.
السبب السابع: شرف النفس وزكاؤها وفضلها، وأنفتهُا وحميتها - أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتُحقرها، وتسوي بينها وبين السفلة.
السب الثامن: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها، والضر الناشئ منها، من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه وحزنه وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوه... إلخ.
السبب التاسع: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس... ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد بطالته وفراغه.
السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها، وهو: ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد على المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه؛ [طريق الهجرتين:2/588].
أسباب الصبر على البلاء:
الصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة:
أحدها: شهود جزائها وثوابها.
الثاني: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.
الثالث: شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن تخلق، فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها، وهو الصبر بلا خلاف بين الأمة... فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه، وإلا تضاعفت عليه.
الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في رفع تلك المصيبة.
السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها، وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه.
السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيَّأه بتسخُّطه وشكواه، فيذهب نفعه باطلًا.
الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لا يحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهية هذا الدواء ومرارته، فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره؛ قال الله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216].
التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه... فإن ثبت اصطفاه واجتباه... وجعل أولياءه وحزبه خدمًا له وعونًا له، وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طُرِدَ... وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر.
العاشر: أن يعلم أن سبحانه يربِّي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر، فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنِّه وكرمه؛ [طريق الهجرتين وباب السعادتين:2/600].
مشاهد تعين العبد على الصبر فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:
ها هنا للعبد عشرة مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:
أحدها: أن ما جرى الله بمشيئة الله وقضائه وقدره... وإذا شهد هذا استراح.
المشهد الثاني: مشهد الصبر، فيشهد وجوبه، وحسن عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتب عليه من الغبطة والسرور، وتخلصه من ندامة المقابلة والانتقام.
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم، فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته لم يعدل عنه إلا لغبش في بصيرته، فإنه ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا.
المشهد الرابع: مشهد الرضا، وهو فوق مشهد العفو والصفح، وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيما إن كان ما أُصيبت به سببه القيام لله.
المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أرفع مما قبله، وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيُحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويُهون عليه هذا علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته، ومحاها من صحيفته، فأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره.
ويهونه عليك أيضًا: علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإذا كان هذا عملك في إساءة مخلوق إليك عفوت عنه، وأحسنت إليه، مع حاجتك وضعفك وفقرك وذُلِّك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك.
المشهد السادس: مشهد السلامة وبرِّ القلب، وهذا مشهد شريف لمن عرفه وذاق حلاوته... فإن القلب إذا اشتغل بشيءٍ فاته ما أهم عنده وخير له منه، فيكون مغبونًا، والرشيد لا يرضى بذلك، ويراه من تصرفات السفيه.
المشهد السابع: مشهد الأمن، فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أَمِنَ ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعة الخوف ولا بد... والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيرًا، فكم من حقيرٍ أردى عدوه الكبير.
المشهد الثامن: مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولد أذى الناس له عن جهاده في سبيل الله، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن، فإن أراد أن يُسلم إليه الثمن، فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حقَّ له على من آذاه، ولا شيء له قِبَلَه، إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع، فإنه قد وجب أجره على الله.
المشهد التاسع: مشهد النعمة، وذلك من وجوه:
أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه أن جعله مظلومًا يرتقب النصر، ولم يجعله ظالِمًا يرتقب المقت والأخذ، فلو خيِّر العاقل بين الحالتين - ولا بد من إحداهما - لاختار أن يكون مظلومًا.
ومنها: أن يشهد نعمة الله عليه في التكفير من خطاياه... فأذى الخلق لك كالدواء الكريه من الطبيب المشفق عليك، فلا تنظر إلى كراهة الدواء ومن كان على يديه، وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك، وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها.
ومنها توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة... وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَلَ الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعدُّ ذخرًا ليوم الفقر والفاقة.
المشهد العاشر: مشهد الأسوة، وهو مشهد لطيف شريف جدًّا، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه، فإنهم أشدُّ الناس امتحانًا بالناس.
المشهد الحادي عشر: وهو أجل المشاهد وأرفعها: مشهد التوحيد، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله تعالى، والإخلاص له ومعاملته، وإيثار مرضاته، والتقرب إليه، وقرت عينه بالله، وابتهج قلبه بحبه والأنس به، واطمأن إليه، وسكن إليه، واشتاق إلى لقائه، واتخذه وليًّا من دون ما سواه، بحيث فوض إليه أمور كلها، ورضي به وبأقضيته... فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتةَ، فضلًا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسرُّه بطلب الانتقام والمقابلة؛ [مدارج السالكين:3/51].
ملحوظة: ذكر أنها عشرة، وقد زاد واحدة.
أسأل الله الرحيم أن يغفر للعلامة ابن القيم، وأن يجزيه خيرًا عما قدم للإسلام والمسلمين، وأن يجمعنا وإياه في دار كرامته، مع الذين أنعم الله من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
المصدر: موقع الألوكة