الخلاصات العلمية من كتب الحافظ ابن قيم الجوزية
ثالثا : هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ((١٦٥)) فائدة وخلاصة
*عبدالله سعيد أبوحاوي القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن هذا الكتاب كما قال عنه مصنفه -رحمه الله- جاء -بحمد الله ومَنِّه وتوفيقه- كتابًا مُمْتِعًا مُعْجِبًا، لا يسأمُ قارِيه، ولا يَمَلُّ النَّاظر فيه؛ فهو كتابٌ يصلح للدُّنيا والآخرة، ولزيادة الإيمان، ولذة الإنسان، يعطيك ما شئتَ من أعلام النبوَّة وبراهين الرسالة، وبشارات الأنبياء بخاتمهم ، واستخراجِ اسمه الصَّريح من كتبهم، وذِكْرِ نعتِه وصفته وسيرتِه من كتبهم، والتمييزِ بين صحيح الأديان، وفاسدِها، وكيفيَّة فسادِها بعد استقامتها، وجملةً من فضائح أهل الكتابَيْن، وما هم عليه، وأنهم أعظم النَّاس براءةً من أنبيائهم، وأنَّ نصوص أنبيائهم تشهد بكفرهم وضلالهم، وغير ذلك من نُكَتٍ بديعة لا توجد في سواه. والله المستعان وعليه التكلان ، فهو حسبنا ونعم الوكيل. انتهى
قلت: فلأهمية هذا الكتاب وحاجة الأمة في هذه الأوقات مع كثرة المحتار والمرتاب،فقد عزمت على تلخيص ما يُحتاج إليه من هذا السفر النفيس ويُقرب فوائده ومضمونه،راجيا من الله العلي القدير أن يعم بنفعه كل صغير وكبير. ومنها :
١- قدّم-رحمه الله- بمقدمة بديعة نافعة، فيها من المواعظ وأصول الثوابت ما ينتفع بها كل حائر وثابت، تركتها لطولها فبادر إلى مطالعتها فما أعظم مضمونها!! . ص ٣---١٢
٢-فإذا بعثر ما في القبور وحصِّل ما في الصدور، وقام الناس لرب العالمين، ونادى المنادي :(وَٱمۡتَـٰزُوا۟ ٱلۡیَوۡمَ أَیُّهَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ) . ص١٤
٣-ولما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان أهل الأرض صنفين : أهل كتاب ، وزنادقة لا كتاب لهم، وكان أهل الكتاب أفضل الصنفين، وهم نوعان : مغضوب عليهم وضالون . ص١٤
٤-الأمة الغضبيَّة، هم «اليهود»، أهلُ الكذب والبَهْتِ والغَدْر والمَكْر والحِيَل، قَتَلَةُ الأنبياءِ وأَكَلَةُ السُّحْت -وهو الربا والرِّشا- أخبثُ الأمم طويَّةً، وأرداهم سجيَّةً، وأَبْعَدُهُمْ مِنَ الرحمة، وأقربُهم من النِّقمة، عادتُهم البغضاء، ودَيْدَنُهم العداوةُ والشحناء، بيت السِّحْر والكذب والحِيَل، لا يرون لمن خالفهم في كفرهم وتكذيبهم الأنبياءَ حرمةً، ولا يَرْقُبون في مؤمن إلًّا ولا ذِمَّةً. ولا لمن وافقهم عندهم حقٌّ ولا شفقةٌ، ولا لمن شاركهم عندهم عدلٌ ولا نَصَفَة ولا لمن خالطهم طمأنينة ولا أمَنَة، ولا لمن استعملهم عندهم نصيحة. بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشُّهم، وسليم الناصية -وحاشاه أن يوجد بينهم- ليس بيهوديٍّ على الحقيقة، أضيق الخلق صدورًا، وأظلمهم بيوتًا، وأنتنهم أفنيةً، وأوحشهم سجيةً ، تحيَّتُهم لعنةٌ ولقاؤهم طِيَرَةٌ، شِعَارُهُم الغَضَبُ ودِثَارُهُم المَقْتُ. ص ١٥
٥-المثلِّثة: أمةُ الضَّلال وعُبَّاد الصَّليب، الذين سَبُّوا الله الخالق مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إيَّاها أحدٌ من البشر، ولم يُقِرُّوا بأنَّه الواحدُ الأحَدُ الفرد الصَّمَدُ، الذي لم يلد ولم يُوْلَدْ ولم يكن له كُفُوًا أحد، ولم يجعلوه أكبر من كل شيء، بل قالوا فيه ما ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾فقل ما شئت في طائفةٍ أصلُ عقيدتها أنَّ الله ثالث ثلاثة، وأنَّ مريم صاحبته، وأنَّ المسيح ابنُه، وأنَّه نزل عن كرسيِّ عظمته، والتحم ببطن الصَّاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قُتِلَ وماتَ ودُفِنَ؛ فدينُها عبادةُ الصُّلْبَانِ، ودعاءُ الصور المنقوشة بالأحمر والأصفر في الحيطان، يقولون في دعائهم: يا والدة الإله ارزقينا، واغفري لنا وارحمينا.
فدينُهم شُرْبُ الخمورِ وأكلُ الخنزير، وتَرْكُ الختان، والتَّعبُّدُ بالنجاسات، واستباحةُ كلِّ خبيثٍ من الفيل إلى البعوضة. والحلالُ ما حلَّله القَسُّ، والحرام ما حرَّمه، والدِّينُ ما شرعه، وهو الذي يغفر لهم الذنوب، وينجِّيهم من عذاب السعير.
فهذا حال من له كتاب .ص١٥-١٦
٦-وأمَّا مَنْ لا كتاب له: فهو بين عابد أوثان، وعابد نيران، وعابد شيطان، وصابئٍ حيران، يجمعهم الشِّركُ وتكذيبُ الرُّسل، وتعطيلُ الشَّرائع، وإنكارُ المعادِ وحشرِ الأجسادِ، لا يدينون للخالق بدين، ولا يعبدونه مع العابدين، ولا يوحِّدونه مع الموحِّدين. ص ١٦
٧-وبالجملة: فدينُ الحنيفيَّة -الذي لا دين لله غيره بين هذه الأديان الباطلة التي لا دين في الأرض غيرها- أخفى من السُّهَا تحت السَّحاب.
قلت المحقق: السها: كوكب صغير خفي الضوء، يمتحن به الناس أبصارهم . ص ١٧
٨-فمَنْ أصابته نفحةٌ من نَفَحَاتِ رحمته، أو وَقَعتْ عليه نظرةٌ من نظرات رأفته: انتعشَ من بين الأموات، وأَنَاخَتْ بفنائِهِ وفودُ الخيرات، وترحَّلت عنه جيوش الهموم والغموم والحسرات.
وإذا نَظَرْتَ إليَّ نَظْرَةَ رَاحِمٍ
في الدَّهْرِ يومًا إنَّني لَسَعِيْدُ. ص ٢٠
٩-ومن بعض حقوقِ الله على عبده رَدُّ الطَّاعنين على كتابه ورسوله ودينه ومجاهدتهم بالحُجَّةِ والبيانِ، والسَّيف والسِّنَانِ، والقلبِ والجنانِ، وليس وراء ذلك حبَّة خَرْدَلٍ من الإيمان . ص٢٠
١٠-قال -رحمه الله -: وكان انتهى إلينا مسائل، أوردها بعض الكفَّار الملحدين على بعض المسلمين، فلم يصادف عنده ما يَشْفِيهِ، ولا وقع دواؤه على الدَّاء الذي فيه، وظن المسلمُ أنَّه بضربه يداويه، فَسَطا به ضربًا وقال: هذا هو الجواب!
فقال الكافر: صدق أصحابنا في قولهم: إنَّ دين الإسلام إنما قام بالسيف لا بالكتاب.
فتفرَّقا وهذا ضارب، وهذا مضروب، وضاعتِ الحُجَّةُ بين الطَّالب والمطلوب. ص ٢٠
١١- السَّيفُ إنما جاء مُنَفذًا للحُجَّة، مقوّمًا للمُعَانِد ، وحدًّا للجاحد.
فدينُ الإسلام قام بالكتاب الهادي، ونفَّذه السَّيفُ الماضي .ص ٢٠
١٢- أمَّا المسلمون؛ فلم يقولوا: إنَّه لم يمنعْ أهلَ الكتاب مِنَ الدُّخول في الإسلام إلا الرِّياسةُ والمأكلة لا غير. وإن قال هذا بعضُ عوامِّهم، فلا يلزم جماعتَهم.
والممتنعون من الدخول في الإسلام من أهل الكتابين وغيرهم جزءٌ يسير جدًّا بالإضافة إلى الدَّاخلين فيه منهم، بل أكثر الأُمم دخلوا في الإسلام طوعًا ورَغْبَةً واختيارًا، لا كرهًا ولا اضطرارًا. ص٢٧
١٣-قال ابن عباس وغيره: الأديان ستة، واحد للرحمن، وخمسة للشيطان .
وهذه الأديان الستة مذكورةٌ في آية الفصل، في قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ ص٢٨
١٤-ومَنْ تأمَّل سيرة النبيِّ ﷺ تبيَّن له أنه لم يُكْرِهْ أحدًا على دينه قط، وأنه إنما قاتل من قاتله. وأما من هَادَنَهُ: فلم يُقاتِلْه مادام مقيمًا على هدنته لم ينقض عهده، بل أمره الله تعالى أن يَفيَ لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ .
ولما قَدِمَ المدينةَ صالح اليهودَ، وأقرَّهم على دينهم، فلما حاربوه ونقضوا عهده وبدؤوه بالقتال قاتلهم؛ فمنَّ على بعضهم، وأجلى بعضَهم، وقتل بعضهم. ص٣٠
١٥-وكذلك مَنْ أسلم من يهود المدينة، وهم جماعة كثيرون غير عبد الله بن سلام مذكورون في كتب السِّيَر والمغازي؛ لم يُسْلِموا رغبةً في الدنيا، ولا رهبةً من السيف، بل أسلموا في حال حاجة المسلمين وكثرة أعدائهم ومحاربة أهل الأرض لهم من غير سَوْطٍ ولا نَوْطٍ؛ بل تحملوا معاداة أقربائهم وحرمانهم نفعهم بالمال والبدن مع ضعف شوكة المسلمين وقلة ذات أيديهم، فكان أحدهم يعادي أباه وأمه وأهل بيته وعشيرته، ويخرج من الدنيا رغبة في الإسلام لا لرياسة ولا مال، بل ينخلع من الرياسة والمال ويتحمل أذى الكفار؛ مِنْ ضربهم وشتمهم وصنوف أذاهم، ولا يصرفه ذلك عن دينه. ص٣١
١٦-فهاتان أُمَّتَان عظيمتان من أكبر الأُمم -يقصد قوم عاد وثمود -قد أَطْبَقَتَا على الكفر مع البصيرة، فأمة الغضب والضَّلال إذا أطْبَقَتَا على الكفر فليس ذلك بِبِدْعٍ. ص٣٣
١٧-وأي أمة من الأمم اعْتبَرْتَهَا وجدتَ المصدِّقين بنبوة محمدٍ ﷺ جمهورَهَا، وأقلُّها وأراذلُها هم الجاحدون لنبوَّته. ص٣٥
١٨-ومعلوم قطعًا أنَّ الله -تعالى- لم يهلك هذه الأُممَ الكثيرةَ إلا بعد ما تبيَّن لهم الهدى، فاختاروا عليه الكفْرَ، ولو لم يتبيَّنْ لهمُ الهدى لم يُهْلِكْهُمْ، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾ .ص ٣٥
١٩-وأين عقول عُبَّادِ العجل وعُبَّاد الصَّليب الذين أضحكوا سائر العقلاء على عقولهم ودلُّوهم على مبلغها بما قالوه في معبودهم من عقول المسلمين؟!!.
٢٠-فقولكم: إنَّ المسلمين يقولون إنهم لم يمنعْهُمْ -يعني اليهود والنصارى- من الدخول في الإسلام إلا الرِّيَاسة والمأكلة لا غير كذبٌ على المسلمين، بل الرياسة والمأكلة من جملة الأسباب المانعة لهم من الدخول في الدين. ص٣٨
٢١-والأسباب المانعة من قَبُول الحقِّ كثيرة جدًّا. فمنها:
-الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس، فإن من جهل شيئًا عاداه وعادى أهله.
فإِنِ انْضَافَ إلى هذا السبب بُغْضُ مَنْ أَمَرَهُ بالحقِّ ومُعاداتُهُ له وحَسَدُهُ كان المانع من القَبُول أقوى. ص٣٩
٢٢-فإنِ انْضَاف إلى ذلك إِلْفُهُ وعادتُه ومَرْبَاهُ على ما كان عليه آباؤه ومن يحبُّه ويعظِّمه: قَوِيَ المانعُ.
فإنِ انْضافَ إلى ذلك توهُّمُه أنَّ الحقَّ الذي دُعِيَ إليه يحول بينه وبين جاههِ وعزهِ وشهواتِه وأغراضهِ: قويَ المانعُ من القَبول جدًّا. ص٣٩
٢٣-فإنِ انْضَاف إلى ذلك خوفُه من أصحابه وعشيرته وقومه على نفسه وماله وجاهه، كما وقع لهرقل ملك النصارى بالشام على عهد رسول الله ﷺ ازداد المانع من قَبُول الحقِّ قوةً، فإنَّ هِرَقْلَ عرف الحقَّ وهَمَّ بالدخول في الإسلام فلم يُطَاوِعْهُ قومُه، وخافَهمْ على نفسه فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبيَّن له الهدى. ٤٠
٢٤-ومِنْ أعظم هذه الأسباب-أي المانعة من الحق-:
-الحَسَدُ؛ فإنه داءٌ كامنٌ في النَّفْسِ، ويرى الحاسدُ المحسودَ قد فُضِّل عليه، وأُوْتِيَ ما لم يُؤْتَ نظيرُهُ فلا يَدَعُهُ الحَسَدُ أن ينقاد له ويكونَ من أتباعه.
وهل مَنَعَ إبليسَ من السجود لآدم إلا الحَسَدُ؟! فإنَّه لما رآه قد فُضِّل عليه ورُفِعَ فوقه غَصَّ بريقه واختار الكفر على الإيمان بعد أن كان بين الملائكة.
وهذا الدَّاء هو الذي منع اليهودَ من الإيمان بعيسى ابن مريم، وقد علموا عِلْمًا لا شَكَّ فيه أنَّه رسولُ الله جاء بالبيِّنات والهدى؛ فحَمَلَهُمُ الحَسَدُ على أنِ اختارُوا الكُفْرَ على الإيمان، وأطبقُوا عليه، وهُمْ أمةٌ فيهم الأحبارُ والعلماء والزهَّاد والقُضَاة والملوك والأُمراء. ص٤٠
٢٥-هذا؛ وقد جاء المسيح بحكم التوراة ولم يأت بشريعةٍ تخالفها، ولم يُقاتِلْهُمْ، وإنما أتى بتحليل بعض ما حُرِّمَ عليهم تخفيفًا ورحمةً وإحسانًا، وجاء مكمِّلًا لشريعةِ التوراة، ومع هذا فاختاروا كلُّهم الكفرَ على الإيمان. ص٤٠
٢٦-فهذه الأُمّةُ الغضبيَّةُ معروفة بعداوة الأنبياء قديمًا. ص٤٧
٢٧-وأسلافُهم وخيارهم-يقصد اليهود- قد أَخْبَرَنا الله -سبحانه- عن أذاهم لموسى، ونَهانَا عن التشبُّه بهم في ذلك فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
وأما خَلَفُهم: فهم قَتَلَةُ الأنبياء؛ قتلوا زكريا وابنه يحيى وخَلْقًا كثيرًا من الأَنبياء، حتى قتلوا في يومِ سبعينَ نبيًّا وأقاموا السوق في آخر النهار كأنهم لم يصنعوا شيئًا. ص٤٨
٢٨-فلم يزل في الناس من يختار الباطل؛ فمنهم من يختاره جهلًا وتقليدًا لمن يُحْسِنُ الظنَّ به، ومنهمٍ من يختاره مع علمه ببطلانه كبرًا وعُلُوًّا، ومنهم من يختاره طمعًا ورغبةً في مأكلٍ أو جاهٍ أو رياسةٍ، ومنهم من يختاره حَسَدًا وبَغْيًا، ومنهم من يختاره محبة في صورة وعِشْقًا، ومنهم من يختاره خشيةً، ومنهم من يختاره راحةً ودَعَةً. فلم تنحَصِرْ أسبابُ اختيارِ الكُفْرِ في حُبِّ الرِّيَاسةِ والمَأْكَلَةِ لا غير . ص٥٤
٢٩-وقد بينَّا أنَّ الذين أسلموا من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين أَكثرُ من الذين لم يُسْلِمُوا، وأنَّه إنما بقي منهم أقلُّ القليل، وقد دخل في دين الإسلام من ملوك الطوائف ورؤسائهم، في حياة رسول الله ﷺ، خلقٌ كثير.
ثم ذكر -رحمه الله - قصص من أسلموا من هؤلاء أو صدقوا وعرفوا أنه النبي الصادق ولم يسلموا، وهم:
-النجاشي ص ٥٥--٦٣
-نصارى نجران ص ٦٤ -٦٥- ١٠٤--١٠٩
-عدي بن حاتم الطائي ص٦٦--٦٩
-سلمان الفارسي ص٦٩ --٧٦
-هرقل، قد عرف أنه رسول الله حقا، وعزم على الإسلام، فأبى عليه عباد الصليب. ص ٧٧--٨٠
-وكذلك ملك دين النصرانية بمصر، عرف أنه نبي صادق، ولكن منعه من اتباعه ملكه، وأن عباد الصليب لا يتركون عبادة الصليب . ص٨٣--٨٥
-وكذلك ابنا الجُلَندى، ملكا عمان وما حولها، من ملوك النصارى ، أسلما طوعا واختيارا. ص٨٥ --٩١
-وهوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة . ص٨٩
والحارث بن أبي شمر بغوطة دمشق. ص ٩٠ --٩٢
٣٠-ثم قال -رحمه الله- ونحن إنما ذكرْنَا بعضَ ملوكِ الطَّوائفِ الذين آمنوا به، وأكابر علمائهم وعظمائهم، ولا يمكننا حَصْرُ مَنْ عداهم، وهم جمهورُ أهل الأرض، ولم يتخلَّفْ عن متابعته إلا الأقَلُّون، وهم: إمَّا مُسالِمٌ له قد رَضِي بالذلَّة والجزية والهوان، وإمَّا خائفٌ منه؛ فأهْلُ الأرض معه ثلاثةُ أقسامٍ: مسلمون ومُسَالِمُونَ له، وخَائِفُونَ مِنْه.
ولو لم يسلم من اليهود في زمنه إلا سَيِّدُهم على الإطلاق وابنُ سيِّدِهم، وعالمُهم وابنُ عالمهم باعترافهم له بذلك وشهادتهم: عَبْدُ اللهِ ابنُ سَلَامٍ، لكان في مقابلة كلِّ يهوديً على وجه الأرض. فكيف وقد تابعه على الإسلام من الأحبار والرهبان مَنْ لا يُحْصي عدَدَهُمْ إلا الله؟!
ونحن نذكر قصة عبد الله بن سلام ثم ذكرها وذكر طرقها . ص٩٢--٩٦
-وذكر أيضا قصة أبو ياسر بن أخطب ،أخو حيي بن أخطب، وإشارته على أخيه وقومه بأن يتبعوا رسول الله ولا يخالفوه. ص ٩٧-٩٨
٣١-الربُّ سبحانه إنما أخبر عن كَوْنِ رسولهِ مكتوبًا عندهم -أي الإخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته- ولم يُخْبِرْ بأنَّ صريح اسمِه العربيّ مذكورٌ عندهم في التوراة والإنجيل.
وهذا واقعٌ في الكتابَيْن -كما سنذكر ألفاظهما إن شاء الله- وهذا أبْلَغُ مِنْ ذِكْره بمجرد اسمهِ، فإنَّ الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز، ولا يشاء أحدٌ، يُسمَّى بهذا الاسم، أنْ يَدَّعي أنه هو: إلا فَعَلَ، إذِ الحوالةُ إنما وقعتْ على مجرَّد الاسم، وهذا لا يحصل به بيانٌ ولا تعريفٌ ولا هدًى، بخلاف ذِكْرِه بنعتِه وصفتِه وعلاماتِه ودعوته، وصفةِ أمَّتِه، ووقت مخرجه، ونحو ذلك، فإنَّ هذا يعيِّنُه ويُمَيِّزُه ويحصر نَوْعَه في شخصِهِ.
وهذا القدر مذكورٌ في التوراة والإنجيل وغيرهما من النبوءات التي بأيدي أهل الكتاب . ص١٠٠
٣١-ومن المعلوم بالضَّرورةِ: أنَّ محمدَ بنَ عبدِ الله -صلوات الله وسلامه عليه- نادى مُعْلِنًا في هاتين الأمَّتين اللَّتين هما أعلم الأمم في الأرض قبل مبعثه، بأنَّ ذِكْره ونَعْتَه وصفَته بعيِبه، عندهم في كتبهم، وهو يتلو ذلك عليهم ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا في كلِّ مجمع، وفي كلِّ نادٍ، يدعوهم بذلك إلى تصديقه والإيمانِ به؛ فمنهم من يصدِّق ويؤمن به، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره كما سيمر بك إن شاء الله.
وغايةُ المكذِّب الجاحدِ أنْ يقولَ: هذا النَّعْتُ والوصفُ حقٌّ، ولكن لستَ أنت المراد به بل نبيٌّ آخر! ص١٠١
٣٢-قال إمامُ التفسير مُجَاهِدٌ: قومٌ من أهل الكتاب، لما سمعوا القرآنَ خَرُّوا سُجَّدَا وقالوا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾ .ص ١٠٤
٣٣-وإذا عُرف هذا -يقصد معرفتهم بأنه رسول الله حقا بالنعت الذي عندهم- فالعلم بأنَّه ﷺ مذكورٌ في الكتب المتقدِّمة، يُعْرَفُ من وجوهٍ متعدِّدَةٍ، ثم ذكر -رحمه الله- منها اثني عشر وجها، تركت ذكرها لطولها، فراجعها فإنها من المهمات .ص١٠٩--١١٩
٣٤-وقولهم: «إنَّ نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها» = كَذِبٌ ظاهرٌ؛ فهذه التوراة التي بأيدي النَّصارى تُخالِفُ التوراةَ التي بأيدي اليهود، والتي بأيدي السامرةِ تُخالِفُ هذه وهذه. وهذه نُسَخُ الإنجيلِ يخالفُ بعضُها بعضًا ويناقِضُه.
فدعواهم: أنَّ نُسَخَ التوراةِ والإنجيلِ متَّفِقَةٌ شرقًا وغربًا من البَهْتِ والكَذِب الذي يروِّجونه على أشباه الأنْعَامِ، حتى إن هذه التوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتَّحريف والنُّقصان ما لا يخفى على الرَّاسخين في العِلْم، وهم يعلمون قطعًا أنَّ ذلك ليس في التوراةِ التي أنزلَها اللهُ على موسى، ولا في الإنجيل الذي أنزَلَهُ على المسيح. ص١١٢
٣٥-وكيف يكون في الإنجيل -الذي أُنزل على المسيح- قِصَّةُ صَلْبِه، وما جرى له، وأنه أصابه كذا وكذا، وصُلِبَ يومَ كذا وكذا، وأنه قام من القبر بعد ثلاث، وغير ذلك ممَّا هو من كلام شيوخ النَّصارى، وغايته أن يكونَ من كلام الحَوَاريِّيْنَ خلطوه بالإنجيل، وسَمَّوا الجميعَ إنجيلًا؟.
وكذلك كانت الأناجيلُ -عندهم- أربعةً، يخالف بعضها بعضًا. ص١١٢
٣٦-والنصارى لا يُقِرُّون أنَّ الإنجيل مُنَزَّل من عند الله على المسيح، وأنَّه كلام الله، بل كلُّ فِرَقِهِمْ مجمعون على أنَّ أربعة تواريخ ألَّفَها أربعةُ رجالِ معروفون في أزمانٍ مختلفةٍ، ولا يعرفون الإنجيلَ غير هذا.
إنجيلٌ ألَّفهُ مَتَّى تلميذ المسيح، بعد تسع سنين من رفع المسيح، وكُتِبَ بالعبرانيَّةِ في بلد «يهوذا» بالشام.
وإنجيل ألَّفهُ مَرْقُس الهارُونِيُّ، تلميذ شَمْعُون، بعد ثلاثٍ وعشرين سنة من رفع المسيح، وكَتبَهُ باليونانيَّة في بلاد أنطاكِيَة من بلاد الرُّوم، ويقولون: إن شمعون المذكور هو ألَّفه ثم مُحِيَ اسمُه من أوله، ونُسِبَ إلى تلميذه مَرْقُس.
وإنجيلٌ ألَّفَهُ لُوْقَا الطبيب الأنطاكيُّ، تلميذ شمعون، بعد تأليف مَرْقُس.
وإنجيل ألَّفَهُ يُوحَنّا تلميذ المسيح، بعد ما رُفِعَ المسيح ببضعٍ وستين سنة، كتبه باليُونَانِيَّة.
وكلُّ واحدِ من هذه الأربعة يسمُّونه: الإنجيل، وبينها من التَّفاوُتِ والزيادة والنقصانِ ما يعلَمُه الواقفُ عليها. ص١١٣
٣٧-فهذه خمسة أمور-يعني من صفات أهل الكتاب-:
«أحدها»: لَبْسُ الحقِّ بالباطل، وهو خَلْطُه به بحيث لا يتميَّزُ الحقُّ من الباطل.
«الثاني»: كِتْمَانُ الحقِّ.
«الثالث»: إخفاؤه. وهو قريبٌ من كِتْمَانِهِ.
«الرَّابع»: تحريفُ الكَلِمِ عن مواضعه. وهو نوعان: تحريفُ لفظِهِ، وتحريفُ مَعْنَاهُ.
«الخامس»: لَيُّ اللِّسان به، ليلبَّس على السَّامع اللفظ المُنَزَّل بغيره.ص ١١٥
٣٨-وليس كلُّ مَنْ قال من أشباه الحمير -مِنْ عُبَّاد الصليب- وأمة الغضب: إنه من علمائهم فهو كذلك. وإذا كان أكثر من يَظُنُّ عوام المسلمين أنه من علمائهم ليس كذلك، فما الظنُّ بغيرهم؟! ص١١٧
٣٩-ولولا أنَّ الله سبحانه تولَّى حِفْظَ
القرآن بنفسه وضمن للأمة أنْ لا تجتمع على ضلالة لأصابه ما أصابَ الكتبَ قَبْلَهُ، قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ص١١٨
٤٠-وإذا كان الدجَّال -رجل كاذب يخرج في آخر الزمان، وبقاؤه في الأرض أربعين يومًا- قد تطابقت الرسل على الإخبار به، وأنذر به كلُّ نبيٍّ قومَه من نوح إلى خَاتَمِ الرُّسل، فكيف تتطابق الكتب الإلهية من أولها إلى آخرها على السكوت عن الإخبار بهذا الأمر العظيم-يقصد نبوة نبينا ومبعثه للناس كافة-الذي لم يطرق العالَمَ أمرٌ أعظم منه ولا يطرقه أبدًا؟.
هذا ما لا يسوَّغه عَقْلُ عاقلٍ، وتأباه حِكْمةُ أحكم الحاكمين، بل الأمر بضدِّ ذلك، وما بعث الله -سبحانه- نبيًّا إلا أخذ عليه الميثاق بالإيمان بمحمَّدٍ وتصديقِهِ. ص١١٨
٤١-فهذه الوجوه-يقصد المتقدمة- على تقدير عدم العلم بوجود نعته وصفته والخبر عنه في الكتب المتقدمة. ونحن نذكر بعضَ ما وَرَدَ فيها من البشارة به ونعته وصفته وصفة أمته، وذلك يظهر من وجوه.
ثم ذكر -رحمه الله-تسعة وثلاثين وجها، يشرح كل وجه، ويبين ما يصدقه ويقابله في شريعتنا، ويرد وينقض ما حرفوه وبدلوه من الألفاظ والمعاني، فلله أبوه ما أعمق معرفته وماأوسع اطلاعه على كتب المخالفين!! فقد قد سال واديه حتى ملأ الخوابي وبلغ الروابي، وقد استغرق هذا الفصل من الكتاب أكثر من مائة صفحة، فمن علت همته فليراجع ما حرره وسطره فلعلك لا تظفر بما ذكره في كتاب سواه، والله الموفق . ص١١٩--٢٣٧
ولعلي أذكر مهمات الفوائد من هذا الفصل.
٤٢- وإخوةُ بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، ولا يعقل في لغةِ أمةٍ من الأُمم أنَّ بني إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل، كما أنَّ إخوة زيدٍ لا يدخل فيهم زيدٌ نفسُهُ. ص١٢٠
٤٣-وهذا التحريفُ والتبديلُ-يقصد من اليهود والنصارى- من معجزات النبيِّ ﷺ التي أخبر بها عن الله؛ من تحريفهم وتبديلهم، فأظهر الله صِدْقَه في ذلك لكل ذي لُبٍّ وعقل، فازداد إيمانًا إلى إيمانه، وازداد الكافرون رِجْسًا إلى رِجْسهم.ص١٢٢
٤٤-ولم يأتِ مِنْ صُلْب إسماعيل مَنْ بُورك وعُظِّم وانطبقت عليه هذه العلامات-يقصد ما ذكر في السفر الأول من التواراة- غيرُ رسولِ الله ﷺ، فأمَّتُهُ ملؤوا الآفاق، وأَرْبَوا في الكثرة على نسل إسحاق . ص١٢٧
٤٥-فلا يستريبُ عاقلٌ أن هذه الصفات-يعني التي تلقوها عن المسيح- لا تنطبقُ إلا علي محمدٍ ﷺ، وذلك لأنَّ الإخبار عن الله بما هو مُتَّصِفٌ به من الصفات، وعن ملائكته، وعن مَلَكُوتِه، وعمَّا أعدَّه في الجنة لأوليائه وفي النار لأعدائه: أمرٌ لا تحتمل عقولُ أكثرِ النَّاس معرفتَهُ علي التفصيل. ص١٣٥
٤٦-وسأل رجلٌ ابنَ عباسٍ عن قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ . قال: ما يؤمنك أنْ لو أخبرتُك بها لكفرتَ؟ يعني: لو أخبرتك بتفسيرها لكفرتَ بها، وكفرك بها تكذيبٌ بها. ص١٣٦
٤٧-قال لهم المسيح: «إنَّ لي كلامًا كثيرًا أريد أنْ أقولَه لكم، ولكنَّكم لا تستطيعون حَمْلَه».
وهو الصادق المصدوق في هذا، ولهذا ليس في الإنجيل من صفات الله تعالي وصفات مَلَكُوتِه وصفاتِ اليوم الآخر إلا أمورٌ مُجْمَلَة، وكذلك التوراة؛ ليس فيها من ذِكْر اليوم الآخر إلا أمور مجملة، مع أنَّ موسي ﷺ كان قد سهَّل الأمر للمسيح. ص١٣٦
٤٨-ولهذا كان في القرآن تفصيل أمرِ الآخرة وذِكْرِ الجنة والنار وما يأتي، أمور كثيرة لا توجد لا في التوراة ولا في الإنجيل، وذلك تصديقُ قولِ المسيح: إنَّه يُخْبِر بكلِّ ما يأتي. وذلك يتضمَّن صِدْقَ المسيح وصِدْقَ محمد ﷺ.
٤٩-وأمَّا المسيح؛ فكان عنده عِلْمٌ بما جاء به موسي قَبْلَه، يشاركه به أهلُ الكتاب، تلقَّاه عمَّن قَبْلَه، ثم جاءه وحيٌ خاصٌّ من الله فوقَ ما كان عندَه، قال تعالي: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ}
فأخبرَ -سبحانه- أنَّه يعلِّمه التوراةَ التي تعلَّمها بنو إسرائيل، وزاده تعليمَ الإنجيل الذي اختصَّ به، والكتاب -الذي هو الكتابة- ومحمدٌ ﷺ لم يكن يَعْلَمُ قَبْلَ الوحي شيئًا البتَّة، كما قال تعالى﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾.ص ١٣٩
٥٠-ولا ريب أن أمة محمدٍ ﷺ أكْمَلُ عقولًا، وأعْظمُ إيمانًا، وأَتمُّ تصديقًا وجهادًا، ولهذا كانت علومُهم وأعمالُهم القلبية وإيمانُهم أعْظَمَ، وكانت العباداتُ البدنيَّة لغيرهم أعظم. ص١٤٠
٥١-ولم يشهد أحدٌ للمسيِح شهادةً سمعها عامَّةُ الناس إلا محمد ﷺ، فإنه أظْهَرَ أمْرَ المسيحِ، وشهِدَ له بالحقِّ حتي سمع شهادتَهُ له عامةُ أهلِ الأرض، وعلموا أنَّه صدَّقَ المسيح ونزَّهه عمَّا افترته عليه اليهود وما غَلَتْ فيه النصاري، فهو الذي شهد له بالحقِّ.ص١٤١
٥٢-وإنْ كان الفارقليط بمعني الحمد فهو تسمية بالمصدر، مبالغةً في كثرة الحمد، كما يقال: رجل عَدْل ورِضىً ونظائر ذلك.
وبهذا يظهر سرُّ ما أخبر به القرآنُ عن المسيح من قوله: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ ، فإنَّ هذا هو معني الفارقليط كما تقدَّم.ص١٤٢
٥٣-ومَنْ هو أُرْكون العالَم الذي أتي بعد المسيح غيرُه؟! «وأُركون العالم» هو عظيم العالَم، وكبير العالَم. وتأمَّلْ قَوْلَ المسيح في هذه البشارة التي لا ينكرونها: «إن أُركون العالم سيأتي وليس لي من الأمر شيء» كيف هي شاهدة بنبوَّةٍ المسيح ونبوَّةِ محمد معًا؛ فإنّه لمَّا جاءَ صارَ الأمر له دون المسيح. فوَجَبَ علي العالَم كلِّهم طاعتُه والانقيادُ لأمره، وصار الأمرُ له حقيقةً.
ولم يَبْقَ بأيدي النَّصاري إلا دينٌ باطِلُه أضعافُ أضعافِ حقِّه، وحقُّه منسوخٌ بما بَعَثَ اللهُ به محمدًا ﷺ.ص١٤٦
٥٤-قال تعالي: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾
وهذه بشارةٌ بأنَّ المسلمين لا يزالونَ فوق النَّصاري إلي يوم القيامة؛ فإن المسلمين هم أتباعُ المرسلين في الحقيقة، وأتباعُ جميع الأنبياء، لا أعداؤه. وأعداؤه عُبَّادُ الصليب الذين رَضُوا أنْ يكونَ إلَهًا مصفوعًا مصلُوبًا مقتولًا، ولم يَرْضَوا أن يكونَ نبيًّا عبدًا لله، وجيها عنده، مقرَّبًا لديه. فهؤلاء أعداؤه حقًّا، والمسلمون أتباعُه حقًّا. ص١٤٩
٥٥-وفي قَوْلِ المسيح في هذه البشارة: «وليس لي من الأمر شيء» إشارةٌ إلي التوحيد وأن الأمر كلَّه لله، فتضمنت هذه البشارة أَصْلَي الدِّين: إثباتُ التوحيد، وإثباتُ النبوَّة، وهذا الذي قاله المسيح مطابقٌ لِمَا جاء به أخوه محمدُ بنُ عبد الله عن ربِّه من قوله له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾فمَنْ تأمَّلَ حال الرَّسولين الكريمين ودَعْولهما وجدَهما متوافِقَيْن متطابقين حَذْوَ القُذَّة بالقذة، وأنه لا يمكن التصديق بأحدهما مع التكذيب بالآخر البتَّة، وأن المكذِّب بمحمد ﷺ أشدُّ تكذيبًا للمسيح، الذي هو المسيح ابن مريم عبد الله ورسوله، وإن آمن بمسيحٍ لا حقيقةَ له ولا وجود، وهو أبطل الباطل. ص١٥١
٥٦-فالمسلمون يؤمنون بالمسيح الصَّادق الذي جاء من عند الله بالهدي ودينِ الحقِّ الذي هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلي مريم العذراء البَتُول. والنَّصاري إنما تؤمن بمسيحٍ دعا إلي عبادة نفسه وأمِّه وأنه ثالث ثلاثة، وأنه الله وابن الله، وهذا هو أخو المسيح الكذَّاب -لو كان له وجود- فإنَّ المسيح الكذاب يزعم أنه الله. ص١٥١
٥٧-والنصاري في الحقيقة أتباع هذا المسيح-يقصد المتقدم في الفائدة التي قبلها-، كما أن اليهود إنما ينتظرون خُروجَه، وهم يزعمون أنهم ينتظرون النبيَّ الذي بُشِّروا به، فعوَّضهم الشيطان بعد مجيئه من الإيمان به انتظارًا للمسيح الدجَّال. وهكذا كلُّ مَنْ أعرض عن الحقِّ يُعَوَّض عنه بالباطل. ص١٥٢
٥٨-ونظيرُ هذا التَّعويضِ-يقصد بالباطل-: أَنَفَةُ الجَهْمِيَّة أن يكون الله -سبحانه- فوق سماواته علي عرشه بائنًا من خلقه حتي لا يكون محصورًا -بزعمهم- في جهة معيَّنة، ثم قالوا: هو في كلِّ مكان بذاته. فحصروه في الآبار والسجونِ والأنجاسِ والأخباثِ، وعوَّضوه بهذه الأمكنةِ عن عرشه المجيد. فليتأملِ العاقلُ لَعِبَ الشيطان بعقول هذا الخلق، وضَحِكَه عليهم، واستهزاءه بهم؟!. ص١٥٢
٥٩-فإنَّ الله سبحانه إذا قضي أن يكون الشيء فإنه يقدر له أسبابًا يكون بها. ومن تلك الأسباب: دعاءُ بعضِ عباده بأن يفعل ذلك، فيكون في ذلك من النِّعمة إجابةُ دعائه مضافًا إلي نعمته بإيجاد ما قضي كونه. ص١٥٣
٦٠-قال -يقصد ابن قتيبة-: وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلافٌ في أنَّ فَارانَ هي مكة. فإنِ ادَّعَوا أنها غير مكةَ؛ فليس يُنْكَر ذلك من تحريفِهم وإفكهم. ص١٥٦
٦١-قال شيخ الإسلام:فكان مجيءُ التوراة مثل طلوع الفجر، ونزولُ الإنجيل مثل إشراق الشمس، ونزولُ القرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء،فإنَّ محمدًا ﷺ ظهر به نور الله وهداه في مشرق الأرض ومغربها أعْظَمَ مما ظهر بالكتابين المتقدِّمَيْن، كما يظهر نور الشمس في مشارق الأرض ومغاربها إذا استعلنت وتوسَّطتِ السماءَ، ولهذا سمَّاه الله: ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾، وسمى الشمس: ﴿سِرَاجًا وَهَّاجًا﴾ والخَلْقُ يحتاجون إلي السراج المنير أعْظمَ من حاجتهم إلي السراج الوهَّاج، فإن هذا يحتاجون إليه في وقت دون وقت، وأمَّا السراج المنير فيحتاجون إليه كلَّ وقت، وفي كل مكان، ليلًا ونهارًا، سرًّا وعلانيةً.ص١٥٧
٦٢-ولم يَخْرج أحدٌ من جبال فاران التي امتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته سوي محمد ﷺ، فإنَّ المسيح لم يكن بأرض فاران البتَّة، وموسي إنما كُلِّم من الطور، والطور ليس من أرض فاران، وإن كانت البرية التي بين مكة والطور تسمي برّيَّة فاران فلم يُنْزِلِ الله فيها التوراةَ، وبشارةُ التوراة قد تقدَّمت بجبل الطور، وبشارة الإنجيل بجبل ساعير. ص١٥٩
٦٣-والنصاري تعيب مَنْ يقاتل الكفَّار بالسيف، وفيهم من يجعل هذا من أسباب التنفير عن محمد ﷺ، ولجهلهم وضلالهم لا يعلمون أنَّ موسي قاتل الكفَّار، وبعده يوشع بن نون، وبعده داود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، وقبلهم إبراهيم الخليل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.ص١٦٤
٦٤-وليس متقلِّد السيف بعد داود من الأنبياء سوي محمد ﷺ، وهو الذي خرَّتِ الأمم تحته، وقُرِنَتْ شرائعه بالهيبة: إمَّا القبول وإما الجزية، وإما السيف. وهذا مطابقٌ لقوله ﷺ: «نُصِرْتُ بالرُّعب مَسِيْرَةَ شهرٍ»
وقد أخبر داود أنَّ لهَ ناموسًا وشرائع، وخاطبه بلفظ الجبَّار إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، بخلاف المستضعف المقهور. ص١٦٥
٦٥-وأنقذَ الضعفاءَ من الجبَّارين -يقصد بذلك نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام-، وهذا بخلاف المسيح؛ فإنه لم يتمكَّنْ هذا التَّمَكُن في حياته، ولا مَنِ اتَّبعه بعد رَفْعِه إلى السماء. ص١٦٧
٦٦-وراكب الجمل هو محمد صلوات الله وسلامه عليهما، وهو أشهر بركوب الجمل من المسيح بركوب الحمار، وبمحمد ﷺ سقطت أصنام بابل لا بالمسيح، ولم يزل في إقليم بابل من يعبد الأوثان من عهد إبراهيم الخليل إلى أنْ سقطتْ بمحمد ﷺ. ص١٦٨
٦٧-وبنو قيدار هم العرب؛ لأن قيدار هو ابن إسماعيل بإجماع الناس، والعَلَم الذي يرفع هو النبوَّة، الصفير بهم: دعاؤهم من أقاصي الأرض إلى الحج، فإذا هم سرَاعٌ يأتون، وهذا مطابقٌ لقوله ﷿: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ ص١٧٣
٦٨-كثرة الضحك من خفة الروح ونقصان العقل، بخلاف التبسُّم فإنه من حُسْنِ الخُلُق وكمال الإدراك. ص١٧٥
٦٩-وأما صفته ﷺ في بعض الكتب المتقدِّمة بأنه: «الضَّحوك القتَّال» فالمراد به: أنه لا يمنعه ضَحِكُه وحُسْنُ خلقِهِ إذا كان جدًا لله وحقًّا له، ولا يمنعه ذلك عن تبسمه في موضعه، فيعطي كلَّ حالٍ ما يليق بتلك الحال؛ فَتَرْكُ الضَّحِك بالكليّة مِنَ الكِبْر والتَّجبُّر وسُوء الخلُق. وكثرتُه مِنَ الخِفَّة والطَّيْش، والاعتدالُ بين ذلك .ص١٧٥
٧٠-فسمَّى الوحي روحًا؛ لأن حياة القلوب والأرواح به، كما أنَّ حياة الأبدان بالأرواح. ص١٧٦
٧١-وقوله: «يفتح العيونَ العُمْيَ والآذان الصُّمَّ والقلوب الغُلْفَ» إشارة إلى تكميل مراتب العلم والهدى الحاصل بدعوته في القلوب والأبصار والأسماع، فباينوا بذلك أحوال الصُّمِّ البُكْمِ العُمْي الذين لهم قلوب لا يعقلون بها، فإنَّ الهدى يصل إلى العبد من هذه الأبواب الثلاثة، وهي مغلقة عن كل أحد لا تفتح إلا على أيدي الرسِل، ففتح الله بمحمد ﷺ الأعْيُنَ العُمْيَ فأبصرتْ بالله، والآذانَ الصُّمَّ فسَمِعتْ عن الله، والقلوبَ الغُلْفَ فعقلتْ عن الله، فانقادت لطاعته عقلًا وقولًا وعملًا، وسلكتْ سبل مرضاته ذُللًا. ص١٧٧
٧٢-وقوله: «ولا يَضْعُف ولا يُغلب» هكذا كان حاله -صلوات الله وسلامه عليه- ما ضعف في ذات الله قط، ولا في حال انفراده وقلَّة أتباعه وكثرة أعدائه واجتماع أهل الأرض على حربه، بل هو أقوى الخلق وأثبتُهِم جأشًا وأشجعُهم قلبًا، حتى إنه يوم أحد قُتِلَ أصحابُه وجُرِحوا، وما ضعُف ولا استكان، بل خرج من الغد في طلب عدوِّه -على شدة القرح- حتى أَرْعَبَ منه العدو وكرَّ خاسئًا على كثرة عَددِهم وعُدَدِهم وضَعفِ أصحابه، وكذلك يوم حُنَيْنٍ؛ أفرد عن الناس في نَفَرٍ يسير دون العشرة، والعدو قد أحاطوا به، وهم ألوف مؤلَّفة فجعل يثب في العدو ويقول:
أَنَا النبيُّ لا كَذِبْ
أَنَا ابنُ عبدِ المطَّلِبْ
ويتقدم إليهم، ثم أخذ قبضة من التراب فرمى بها وجوههم فولَّوا منهزمين. ص١٨٠
٧٣-ومَنْ تأمَّل سيرتَه وحروبَه عَلِمَ أنّه لم يطرق العالَمَ أشجعُ منه ولا أثبت ولا أصبر، وكان أصحابُه -مع أنَّهم أشجعُ الأمم- إذا حَمِي البَأْسُ واشتدَّ الحرب اتَّقوا به وتتَرَّسُوا به فكان أقربُهم إلى العدو، وأشجَعُهم هو الذي يكون قريبًا منه. ص١٨٠
٧٤-فإنَّ لفظ التوراة والإنجيل والقرآن والزبور: يُرَاد به الكتب المعيَّنة تارةً، ويُراد به الجنس تارةً. فيعبَّر بلفظ القرآن عن الزبور، وبلفظ التوراة عن القرآن، وبلفظ الإنجيل عن القرآن أيضًا. وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ: «خُفِّفَ على دَاوُدَ القُرآنُ فكانَ مَا بينَ أنْ تُسْرَجَ دَابتُّه إلى أنْ يَرْكَبَها يقرأ القُرْآنَ» فالمراد به: قرآنه، وهو الزَّبُور.
وكذلك قولُه في البشارة التي في التوراة: «نبيًّا أُقيم لبني إسرائيلَ مِنْ إخوتهم، أُنْزِل عليه توراةً مِثْلَ توراةِ موسى».
وكذلك في صفة أمتِه ﷺ في الكتب المتقدِّمة «أناجيلُهم في صُدُورهم».ص١٨٣
٧٥-وقوله: «مُشَفَّح» -بالشين المعجمة والفاء المشددة بوزن مُكَرم- وهي لفظة عبرانية مطابقة لاسم محمَّد معنًى ولفظًا، مقاربًا كمطابقة مُؤَذ مُؤَذ، بل أشدُّ مطابقةً، ولا يمكن العرب أن يتلفظوا بها بلفظ العبرانية فإنما بينَ الحاء والهاء، وفتحة الفاء بين الضمة والفتحة ولا يستريب عالِمٌ من علمائهم منصفٌ أنها مطابقة لاسم محمدٍ.ص١٨٤
٧٦-فلهذا جاء ذكره-يقصده نبينا محمدا عليه الصلاة والسلام-في نبوة إِشَعْيَا أكثر من غيرها من النبوات، وأعلن إِشَعْيَا بذِكْرِه ووَصْفِه ووَصْفِ أمته، ونادى بها في نبوَّته سرًّا وجهرًا لمعرفته بقدره ومنزلته عند الله.
وقال إشَعْيَا أيضًا: «إنَّا سمعنا من أطراف الأرض صوت محمد».
وهذا إفصاحٌ باسمه ﷺ فَلْيُرِنَا أهلُ الكتاب نبيًّا نَصَّتِ الأنبياءُ على اسمه وصفته ونعته وسيرته وصفة أمته وأحوالهم سوى رسول الله ﷺ؟!ص١٨٧
٧٧-قال بعض عُبَّاد الصليب: إنما بشر-يقصدون المسيح- بإلْيَاسَ النبي، وهذا لا يُنْكَر من جهل أمة الضلال وعبَّاد خشبة الصليب التي نحتتها أيدي اليهود؛ فإنَّ إلياس قد تقدم إرساله على المسيح بدهور متطاولة.ص١٩٦
٧٨-وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام: أنتم بتكذيبكم محمدًا ﷺ قد شتمتم الله أعظم شتيمة. فعجب من ذلك، وقال: مثلك يقول هذا الكلام! فقلت له: اسْمعِ الآن تقريرَه، فذكرها وقد غُلب هذا اليهودي وأمسك ولم يُحر جوابا. ص٢٠٠-٢٠١
٧٩-وقريب من هذه المناظرة ما جرى لبعض علماء المسلمين مع بعض اليهود ببلاد المغرب . قال له المسلم: في التوراة التي بأيديكم إلى اليوم أن الله قال لموسى: «إني أُقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيًّا مثلك أجعل كلامي على فيه، فمن عصاه انتقمت منه».
قال له اليهودي: ذلك يوشع بن نون.
فقال المسلم: هذا محال من وجوهٍ، ثم ذكر هذه المناظرة بين هذا المسلم واليهودي، فراجعها هي والتي قبلها تعلم قوة حجج المسلمين على غيرهم وصدقهم وغلبتهم!! ص٢٠٢--ص٢٠٤
٨٠- ذكر-رحمه الله -في أكثر من ثلاثين صفحة من الأحاديث والآثار والأخبار والقصص ما يُثبت ويُبشر بنبوته ويذكر نعوته، وفيها من العجائب والغرائب الشيء الكثير . ص٢٠٤--٢٣٧
٨١-فالأخبار والبشارة بنبوته ﷺ في الكتب المتقدِّمة عُرِفَت من عدة طرق، ثم ذكرها ،وقال في آخرها:
وكلُّ واحدٍ من هذه الطرق الأربعة كافٍ في العلم بصحة هذه البشارات.ص٢٣٨--٢٤٠
٨٢-وكيف يُنْكَرُ من الأمة الغضبيَّة -قَتَلَةِ الأنبياء الذين رموهم بالعظائم- أنْ يكتموا نَعْتَ رسولِ الله ﷺ وصِفَتَه، وقد جحدوا نبوة المسيح ورموه وأمَّه بالعظائم، ونعتُه بالبشارة به موجودٌ في كتبهم، ومع هذا أطبقوا على جحد نبوته وإنكارِ بشارة الأنبياء به، ولم يفعل بهم ما فعلَه بهم محمد ﷺ من القتل والسَّبْي، وغنيمة الأموال، وتخريب الديار، وإجلائهم منها، فكيف لا تتواصى هذه الأمةُ بكتمان نَعْتِه وصفتِه وتُبَدِّله مِنْ كتبها؟
وقد عاب الله سبحانه عليهم ذلك في غير موضع من كتابه ولعنهم عليه. ص٢٤٠-٢٤١
٨٣-وأما الإنجيل؛ فقد تقدَّم أن الذي بأيدي النصارى منه أربع كتب مختلفة من تأليف أربعة رجال: يُوحَنَّا، ومَتَّى، ومَرْقُسْ، ولُوقًا، فكيف يُنْكَر تطرُّق التبديل والتحريف إليها، وعلى ما فيها من ذلك؛ فقد صرفهم الله عن تبديل ما ذَكَرْنا من البشارات بمحمد بن عبد الله ﷺ وإزالتِهِ، وإن قدروا على كتمانه عن أتباعهم وجُهَّالهم. ص٢٤١-٢٤٢
٨٤-وفي التوراة التي بأيديهم من التحريف والتبديل وما لا يجوز نسبته إلى الأنبياء؛ مما لا يشكُّ فيه ذو بصيرة. والتوراةُ التي أنزلها الله على موسى بريئةٌ من ذلك. ثم ذكر عددا من المواضع المحرفة في التواراة تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقبحهم الله ما أعظم افتراءاتهم وكذبهم!! ص٢٤٢--٢٤٦
٨٥-وجَحْدُهُم نبوةَ محمدٍ من الكتب التي بأيديهم نَظِيْرُ جَحْدِهم نبوة المسيح، وقد صرَّحت باسمه. ففي نصِّ التوراة: «لا يزول الملك من آل يهوذا والرَّاسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح». وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذَّبوه ورَمَوْه بالعظائم وبَهَتُوه وبهتوا أمَّه فدمَّر الله عليهم وأزال مُلْكَهم. ص٢٥٠
٨٦-وقد عوضوا-يقصد اليهود- من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجَّال، فإنه هو الذي ينتظرونه حقًا، وهم عَسْكَرُهُ وأتْبَعُ الناس له، ويكون لهم في زمانه شوكةٌ ودولة إلى أن ينزل مسيح الهدى ابنُ مريمَ، فيقتل مُنْتَظَرَهُم، ويضع -هو وأصحابه- فيهم السيوفَ حتى يختبئ اليهوديُّ وراء الحجر والشجر، فيقولان: يا مسلم هذا يهوديٌّ ورائي تَعَالَ فَاقْتُلْه .
فإذا نظف الأرض منهم ومن عُبَّاد الصليب فحينئذ يرعى الذئب والكبش معًا، ويربضان معًا، وترعى البقرة والذئب معًا، ويأكل الأسد التِّبْن، ويلقى الأمْنُ في الأرض.ص٢٥١
٨٧-فأهلُ الكتاب عندهم عن أنبيائهم حقٌّ كثير، لا يعرفونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه. ص٢٥٢
٨٨-وقد حَمَّل رسولُ الله ﷺ مَنْ أدركه -يقصد عيسى عليه السلام- من أمته السَّلامَ، وأمره أن يقرئه إيَّاه منه، فأخبر عن موضع نزوله بأيِّ بلدٍ وبأي مكانٍ منه، وبحالِهِ وقتَ نزوله، ومَلْبَسِه الذي كان عليه، وأنه ممصَّرتان. أي: ثوبان. وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصَّلًا حتى كأنَّ المسلمين يشاهدونه عيانًا قبل أن يروه.ص٢٥٣
٨٩-وأما الإنجيل: فهو أربعة أناجيل أُخِذَتْ عن أربعة نفر؛ اثنان منهم لم يَرَيَا المسيح أصلًا، وهما: مَرْقُس ولُوقَا، واثنان رأياه واجتمعا به، وهما مَتَّى ويُوحَنَّا، وكل منهم يزيد وينقص ويخالف إنجيلُه إنجيلَ أصحابه في أشياء، وفيها ذِكْرُ القولِ ونقيضِه. ثم ذكر -رحمه الله- عدة مواضع محرفة من الإنجيل تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ،وقبح الله أمة الضلال وعباد الصليب .ص٢٥٦--٢٥٩
٩٠-فهؤلاء اليهود تواطؤوا وتواصَوا بكتمانِ نبوَّة المسيحِ وجَحْدِ البشارة به وتحريفِهَا، واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض، مشارقها ومغاربها. ثم ذكر -رحمه الله-بعد ذلك عدة حوادث ومواضع تواطؤوا على تحريفها وجحودها من التوراة. ص٢٦٠--٢٦٢
٩١-وأما أُمَّةُ الضلال وعُبَّادُ الصليب والصُّوَر المزوَّقَة في الحيطان، وإخوانُ الخنازير، وشَاتِمُو خالقهم ورزاقهم أقْبَحَ شَتْمٍ، وجاعلوه مَصْفَعَةَ اليهود، وتواطؤهم على ذلك، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل، فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مِثْل هذه الأمة التي هي أضلُّ من الحمير ومن جميع الأنعام السَّائمة، وخَلَّى بينهم وبين سَبِّه وشَتْمِهِ وتكذيب عبده ورسوله، ومعاداةِ حزبه وأوليائه، وموالاة الشيطان، والتَعوُّض بعبادةِ الصُّوَر والصُّلْبان عن عبادةِ الرحمن الرحيم، وعنِ قولِ: الله أكبر بالتصليب على الوجه، وعن قِراءة ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، باللهمَّ أعطنا خبزنا الملائم لنا، وعن السجود للواحد القهَّار بالسجود للصُّوَر المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد. ص٢٦٣
٩٢-قال السائل: إن قلتم: إنَّ عبد الله بن سلَام وكَعْبَ الأَحبار ونحوهما شهدوا لنا بذلك من كتبهم؛ فهلَّا أتى ابنُ سَلَام وأصحابُه الذين أسلَمُوا بالنُّسَخ التي لهم كي تكونَ شاهدةً علينا!
والجواب من وجوه: ثم ذكر -رحمه الله- ثلاثة أجوبة لولا طولها، فراجعها فإنها من المهمات. ص٢٦٤--٢٦٨
٩٣-ونحن قد ذكرنا من البشارات به -التي في كتبهم- ما لا يمكن لمن له أدْنَى معرفةٍ منهم جَحْدُه والمكابرة فيه، وإن أمْكَنَهُم المغالطةُ بالتأويل عند رَعَاعِهِم وجُهَّالهم. ص٢٦٦
٩٤- عبد الله بن سلام قد قابل اليهود وأوقفهم بين يدي رسول الله ﷺ على أنَّ ذِكْرَه ونعته وصفته في كتبهم، وأنهم يعلمون أنه رسول الله، وقد شهدوا بأنه أعلمُهم وابنُ أعلمِهِمْ وخيرُهم وابنُ خَيْرِهم. فلم يضرَّ قولُهم بعد ذلك إنّه شرُّهم وابنُ شرِّهم وجاهلُهم وابنُ جاهلِهِم. ص٢٦٦
٩٥-وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به وصرح بها بين أظهر المسلمين واليهود والنصارى، وأذّن بها على رؤوس الملأ وصدَّقه مسلمو أهل الكتاب عليها، وأقرُّوه على ما أخبر به، وأنه كان أوسعهم علمًا بما في كتب الأنبياء، وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله ويَزِنُونَه بما يعرفون صِحَّتَه فيعلمون صِدْقَه، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب، أو مِنْ أصْدَقِهم. ص٢٦٧
٩٦-وقد رأى من كان أعقلَ منكم-يقصد أهل الكتاب- وأبْعَدَ من الحسد مِنْ آيات الأنبياء ما رأوا وما زادهم ذلك إلا تكذيبًا وعنادًا، فأسلافُكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك؛ أوصى به الأول للآخر، واقتدى فيه الآخر بالأول.
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ﴾. ص٢٦٨
٩٧-وأما المسألة الخامسة فهي قول السائل: إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور؛ فابن سلام وأصحابُه أولى بذلك الغرض، لأنهم قليلون جدًّا، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد.
والجواب من وجوه، ثم ذكر خمسة وجوه ترد على ما ذكره السائل، ذكر في الوجه الرابع منها مناظرته مع بعض علماء النصارى وقد تبين له الحق وبُهت ومع ذلك لم يؤمن، وفي الوجه الخامس ذكر أن في نفس سؤاله جواب عليه. والله الموفق. ص٢٦٩--٢٧٣
٩٨-فالمسلمون إنما بَنَوا أساس دينهم ومعالم حلالهم وحرامهم على الكتاب الذي لم ينزل من السماء كتابٌ أعظمُ منه، فيه بيان كلِّ شيء وتفصيلُ كلِّ شيء وهدًى ورحمة وشفاء لما في الصدور، به هدى الله رسولَه وأمته فهو أساس دينهم. ص٢٧٥
٩٩-أنَّ قولكم: إنَّ المسلمين بَنَوا أساس دينهم على رواية عوامٍّ من الصحابة من أعظم البَهْت وأفحش الكذب؛ فإنَّهم وإنْ كانوا أُميِّين ، فمذ بعث الله فيهم رسوله زكَّاهم وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وفضَّلهم في العلم والعمل والهدى والمعارف الإلهية والعلوم النافعة المكمِّلة للنفوس على جميع الأمم، فلم تَبْق أمَّةٌ من الأمم تُدَانيهم في فضلهم وعلومهم وأعمالهم ومعارفهم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة وعلم وهدى وبصيرة إلى ما عندهم: لم يظهر له نسبةٌ إليه بوجهٍ ما، وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب والهندسة، والكَمِّ المتَّصل والكم المنفصل، والنبض والقارورة والبول والغائط ، ووزن الأنهار ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة، وصناعة الكيميا، وعلم الفلاحة، وعلم الهيئة، وتسيير الكواكب، وعلم الموسيقى والألحان، وغير ذلك من العلوم التي هي بين علم لا ينفع وبين ظنون كاذبة، وبين علم نَفْعُه في العاجلة وليس من زاد المعاد.
فإن أردتم أنَّ الصحابة كانوا عوامَّ في أصل العلوم فنعم إذًا، «وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عَارُها». ص٢٧٥-٢٧٦
١٠٠-وإن أردتم أنهم-يقصد الصحابة- كانوا عوامَّ في العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ودينه وشرعه وتفاصيله واليوم الآخر وتفاصيله وتفاصيل ما بعد الموت وعلم سعادة النفوس وشقاوتها، وعلم صلاح القلوب وأمراضها فمن بَهَتَ نبيَّهم بما بهته به وجحد نبوته ورسالته التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار لم ينكر له أن يبهت أصحابه ويجحد فضلهم ومعرفتهم، وينكر ما خصَّهم الله به وميَّزهم على مَنْ قبلهم، ومن هو كائن مِنْ بعدهم إلى يوم القيامة؟! ص٢٧٦
١٠١-وكيف يُدَّعى في أصحاب نبيِّنا أنهم عوام، وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة -على كثرتها واتساعها وتفنن ضروبها- إنما هي عنهم مأخوذة، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة؟ ص٢٧٩
١٠٢-وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم وفتيانهم وقد طَبَّقَ الأرض علمًا، وبلغت فتاويه نحوًا من ثلاثين سِفْرًا، وكان بحرًا لا يَنْزِف، لو نزل به أهلُ الأرض لأوسعهم علمًا، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام والفرائض يقول القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في تفسير القرآن ومعانيه يقول السامع: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في السنَّة والرواية عن النبيِّ ﷺ يقول القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في القصص وأخبار الأمم وسِيَر الماضين فكذلك، فإذا أخذ في أنساب العرب وقبائلها وأصولها وفروعها فكذلك، فإذا أخذ في الشِّعر والغريب فكذلك.ص٢٧٩
١٠٣- قال مجاهد: العلماء أصحاب محمد ﷺ.
وقال قتادة في قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ . قال: هم أصحاب محمد ﷺ . ص٢٨٠
قلت : قد ذكر ابن القيم -رحمه الله- طرفا من ثناء بعضهم على بعض، وثناء أصحابهم وتلامذتهم من التابعين، وما برّزوا فيه من علوم وفهوم، فاقرأ ماذكره ففيه معرفة بمقدار هؤلاء العلماء الحكماء الأبرار الأتقياء -رضي الله عنهم وأرضاهم-.ص٢٨٠--٢٩٣
وسأنتقي منها ما يندر ويَسُر:
١٠٤-وقيل لعليِّ بن أبي طالب: حدِّثْنا عن أصحاب رسول الله ﷺ، قال: عن أيِّهم؟ قالوا: عن عبد الله بن مسعود، قال: قرأ القرآنَ وعَلِم السنَّة، ثم انتهى، وكفى بذلك. ص٢٨٠
١٠٥-وقال مسروق: شافهتُ أصحاب محمد ﷺ فوجدت عِلْمَهم ينتهي إلى ستة؛ إلى عليٍّ، وعبد الله، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأُبيِّ بن كعب، ثم شافهت الستة فوجدت علمهم ينتهي إلى علي وعبد الله. ص٢٨١
١٠٦-وقال عبد الله : إني لأَحْسَبُ أنَّ عمر بن الخطَّاب قد ذهب بتسعة أعشار العلم .
وقال عبد الله: لو أنَّ عِلْم عمرَ بنِ الخطَّاب وضع في كِفَّة الميزان، ووضع عِلْمُ أهل الأرض في كِفَّةٍ لَرَجَحَ عِلْمُ عُمَرَ .
وقال حذيفة بن اليمان: كأنَّ عِلْمَ الناس مع علم عمر دُسَّ في جُحْر . ص٢٨٢
١٠٧-وقال عبدُ الله بن بُرَيْدَة في قوله : ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا﴾ . قال: هو عبد الله بن مسعود. ص٢٨٤
١٠٨-وقيل لمسروق: كانت عائشة تُحْسِنُ الفَرائِضَ؟ قال: والله لقد رأيتُ الأكابرَ من أصحابِ رسول الله ﷺ يسألونها عن الفَرائِضِ. ص٢٨٤
١٠٩-وقال شَهْرُ بن حَوْشَب: كان أصحاب محمد ﷺ إذا تحدَّثوا وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هَيْبَةً له. ص٢٨٥
١١٠-وقال عليّ بن أبي طالب: أبو ذر وعاء مُلِئَ علمًا، ثم وُكِيَ عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قُبِضَ. ص٢٨٥
١١١-وقال أبو الدرداء: إنَّ من الناس من أُوتي علمًا ولم يُؤْتَ حِلْمًا، وشدَّادُ بنُ أَوْسٍ ممن أُوتِيَ عِلْمًا وحِلْمًا. ص٢٨٥
١١٢-ولما مات زيد بن ثابت قام ابن عباس على قبره، وقال: هكذا يذهب العلم .ص٢٨٥
١١٣-وقال عُبَيْدُ اللهِ بنُ عبدِ الله بنِ عُتْبَةَ: ما رأيتُ أحدًا أعْلَمَ بالسنَّة ولا أجْلَدَ رأيًا ولا أَثْقَبَ نَظَرًا -حين يَنْظُر- من ابن عباس .
وكان عُمَرُ بنُ الخطَّاب يقول له: قد طرأتْ علينا عُضَل أقضيةٍ أنت لها ولأمثالها، ثم يقول عُبَيْدُ الله: وعُمَرُ عُمَرُ في جدِّه، وحُسْنِ نظره للمسلمين. ص٢٨٦
١١٤- وقال البخاريُّ في «تاريخه»: روى العِلْمَ عن أبي هريرةَ ثمانمائة رجلٍ، ما بين صاحب وتابع. ص٢٨٨
١١٥-وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ قال: هم أصحابُ محمد ﷺ . ص٢٨٩
١١٦-وقال مالكٌ عن نافع: كان ابنُ عبَّاسٍ وابنُ عُمَر يجلسان للنَّاس عند قدوم الحاجِّ، وكنت أجلس إلى هذا يومًا وإلى هذا يومًا، فكان ابنُ عبَّاس يجيبُ ويُفْتِي في كلِّ ما يُسْأَلُ عنه، وكان ابنُ عُمَرَ يردُّ أَكْثَرَ ممَّا يُفْتِي. ص٢٩٠
١١٧-وقال محمد بن المُنْكَدِر: ما قَدِمَ البَصْرَةَ أحد أفْضَلَ من عِمْرانَ بنِ حُصَيْن. ص٢٩١
١١٨-والعلم إنما انتشر في الآفاقِ عن أصحاب رسول الله ﷺ، فهم الذين فتحوا البلادَ بالجهادِ، والقلوبَ بالعلمِ والقرآنِ، فملؤوا الدنيا خيرًا وعِلْمًا، والناسُ اليومَ في بقايا آثارِ عِلْمهم .ص٢٩١
١١٩-قال الشَّافِعيُّ في «رسالته» -وقد ذكر الصحابة فعظَّمهم وأثنى عليهم
ثم قال-: وهم فوقَنا في كلِّ علمٍ واجتهادٍ، وورعٍ وعَقْلٍ، وأمر استُدْرِك به عِلمٌ، وآراؤهم لنا أحْمَدُ وأولى بنا من آرائنا، ومَنْ أدركنا ممن نرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرَّقوا، وكذلك نقول ولم نخرج من أقاويلهم كلِّهم. ص٢٩٢
١٢٠-وقال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول: لما دخل أصحابُ رسول الله ﷺ الشَّام نظر إليهم رجلٌ من أهل الكتاب فقال: ما كان أصحابُ عيسى ابنِ مريمَ الذين قُطِّعوا بالمناشير وصُلِّبوا على الخشب بأشدَّ اجتهادًا من هؤلاء. ص٢٩٢
١٢١-وعلماؤهم وتلاميذهم-يقصد الصحابة- هم الذين ملؤوا الأرض عِلمًا، فعلماء الإسلام كلُّهم تلاميذُهم وتلاميذُ تلاميذِهم وهلمَّ جرًّا. وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبَّق عِلْمُهم الأرض شرقًا وغربًا هم تلاميذُ تلاميذِهم. وخيارُ ما عندَهم ما كان عن الصحابة، وخيارُ الفقه ما كان عنهم، وأصحُّ التفسير ما أُخِذ عنهم. ص٢٩٣
١٢٢-فهذا مالكٌ جمعت فتاويه في عِدَّة أسفار، وكذلك أبو حنيفة، وهذه تصانيف الشافعيِّ تقارب المائة، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سِفْر، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سِفْرًا، وغالب تصانيفه، بل كلُّها عن رسول الله ﷺ وعن الصحابة والتابعين. ص٢٩٣
١٢٣-وهذا علَّامتهم المتأخر «شيخ الإسلام ابن تيمية» جمع بعضُ أصحابِه فتاواه في ثلاثين مجلدًا ورأيتها في الديار المصريَّة. ص٢٩٤
١٢٤-"والتوراة الأولى" أعم من التوراة المعيَّنة، وقد كان الله -سبحانه- كتب لموسى في الألواح من كلِّ شيء موعظةً وتفصيلًا لكلِّ شيء، فلما كسرها رُفع منها الكثير وبقي خيرٌ كثير، فلا يقدحُ في هذا النقلِ جَهْلُ أكثر أهل الكتاب به، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيءٌ لا يعرفه إلا الآحاد من الناس أو الواحد. وهذه الأمةُ -على قرب عهدها بنبيها- في العلم الموروث عنه ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدًّا من أمته، وسائرُ الناس مُنْكرٌ له وجاهل به.ص٢٩٦
١٢٥-فأمَّا طائفةٌ شبَّه الله علماءهم بالحمير التي تحمل أسفارًا، وطائفةٌ علماؤها يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظِّمه وتجلُّه، وتأخذ دينها عن كلِّ كاذب ومُفْتَرٍ على الله وعلى أنبيائه فمَثَلُها مَثَل عريان يحارب شاكي السلاح، ومَنْ سقف بيتِه زجاجٌ وهو يُرَاجِمُ أصحاب القصور بالأحجار. ولا يُسْتكثر على مَنْ قال في الله ورسوله ما قال أنْ يقول في أعلم الخَلْقِ إنِّهم عوام.
وقد قال قبل ذلك :وما يدريكم -مَعَاشرَ المثلِّثةِ وعبَّاد الصُّلْبان وأمةَ اللعنةِ والغضب- بالفقه والعلم. وقد حط عليهم وسبّ وسفّه أقوالهم وفضحهم بما يشفي الغليل ويداوي العليل. ص٢٩٧--٢٩٩ومن ص٣٠٢--٣٤٥
١٢٦-الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل، بل يجتمع في العبدِ الإسلامُ والإيمانُ، والذنوب والمعاصي، فيكون فيه هذا وهذا. فالمعاصي لا تنافي الإيمانَ بالرسل، وإنْ قدحت في كماله وتمامه.ص٣٠١
١٢٧-وتحيُّلهم-أي اليهود- على صيد الحيتان في يوم السبت لا تَنْسَه، حتى مُسِخوا قردة خاسئين!!
وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيًّا، في أول النهار، وأقاموا السوق آخره كأنهم جزروا غنمًا. وذلك أمر معروف!! ص٣٠٤
١٢٨-أفلا يستحي عُبَّاد الكباش والبقر من تعيير الموحِّدين بذنوبهم؟!. ص٣٠٥
١٢٩-فلو بلغتْ ذنوبُ المسلمين عدد الحصا والرِّمال والتراب والأنفاس ما بلغتْ مبلغ قَتْلِ نبيٍّ واحد، ولا وصلتْ إلى قول إخوان القردة: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ وقولهم: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ وقولهم: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ .ص٣٠٥
١٣٠-وهذه الأمة الغضبية، وإن كانوا مفترقين افتراقًا كثيرًا، فيجمعهم فرقتان: القرَّاؤون والربانيون. وكان لهم أسلاف فقهاء، وهم صنَّفوا لهم كتابين: أحدهما يسمى «المشنا» ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة، والثاني يسمى «التلمود»، ومبلغه قريب من نصف حمل بغل. ولم يكن المؤلِّفون له في عصر واحد وإنما ألَّفوه في جيلٍ بعد جيل، فلما نظر متأخروهم إلى ذلك وأنه كلَّما مرَّ عليه الزمان زادوا فيه. وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرًا من أوله، علموا أنهم إنْ لم يقفلوا باب الزيادة وإلا أدَّى إلى الخَلَل الفاحش؛ فقطعوا الزيادة وحظروها على فقهائهم، وحرموا من يزيد عليه شيئًا، فوقف الكتاب على ذلك المقدار. ص٣٠٦
١٣١-وأما تلك التُّرَّهَات التي ألَّفها فقهاؤهمِ الذين يسمونهم «الحخاميمِ» في علم الذباحة ورتَّبوها ونسبوها إلى الله فاطَّرَحَها القراؤون-وهم أصحاب عنان وبنيامين - كلَّها وألغوْها، وصاروا لا يحرِّمون شيئًا من الذبائح التي يتولَّون ذبحها البتَّة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبالغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة، والأولون أصحاب استنباط وقياسات.ص٣١١
١٣٢-والفرقة الثانية يقال لهم: «الربَّانِيُّون» وهم أكثر عددًا، وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أنَّ الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه: «بث قول».
وهذه الطائفة أشدُّ اليهود عداوة لغيرهم من الأُمم. ص٣١١
١٣٣-اليهود مُبَدَّدُون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها كما قال تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا﴾ . ص٣١٢
١٣٤-وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قَدِمَ عليهم رجلٌ من أهل دينهم
من بلاد بعيدة، يُظْهِرُ لهم الخشونةَ في دينه والمبالغةَ في الاحتياط، فإن كان من فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهِمُهم قلَّةَ دينِهِم وعِلْمِهم، وكلَّما شدَّد عليهم قالوا: هذا هو العالم. فأعلمُهم أعظمُهم تشديدًا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذبَّاح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون: هذا عالِمٌ غريب قَدِم علينا. فلا يزال ينكرُ عليهم الحلال ويشدِّدُ عليهم الآصار والأغلال ويفتحُ لهم أبواب المكر والاحتيال. وكلما فعل هذا قالوا: هذا هو العالم الربَّاني والحخيم الفاضل. ص٣١٣
١٣٥-وإن كان القادم عليهم حَبْرًا من أحبارهم؛ فهناك ترى العجب العجيب من الناموس الذي تراه يعتمده والسنن التي يُحْدِثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مُسَلِّمين له، وهو يحتلب درَّهم ويحتلب دِرْهمَهم.ص٣١٤
١٣٦-وكلَّما كانت الأمة أقْدَمَ واختلفتْ عليها الدول المُتَناوِلَةُ لها بالإذلال والصَّغَار كان حظُّها من اندراس دينها أَوْفَرَ. وهذه الأمة الغضبيَّة أوْفَرُ الأمم حظًّا من ذلك؛ فإنها أقدم الأمم عهدًا، واستولتْ عليها سائِرُ الأمم من الكندانيين والكَلْدانِيِّيْن والبَابِليِّين والفُرْس واليُونَان والنَّصارى.
وما من هذه الأمم أمةٌ إلا وقصدتِ استئصالهم وإحْراقَ كتبهم وتَخْريبَ بلادهم، حتى لم يَبْقَ لهم مدينةٌ ولا جيش ولا حِصْنٌ إلا بأرض الحِجَاز وخَيْبَر، فأعزَّ ما كانوا هناك. ص٣١٧
١٣٧-وكثيرًا ما منعهم-يقصد اليهود- ملوك الفرس من الخِتَان وجعلوهم قُلْفًا، وكثيرًا ما منعوهم من الصلاة؛ لمعرفتهم بأنَّ مُعْظَم صلاتهم دعاءٌ على الأمم بالبَوَار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان، فلما رأوا أنَّ صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة، فرأت اليهود أنَّ الفُرْس قد جَدُّوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعيةً مزجوا بها صلاتَهم سَمَّوها «الخزانة»، وصاغوا لها ألحانًا عديدةً وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها.
والفرق بين الخزانة والصلاة: أنَّ الصلاة بغير لَحْنٍ، ويكون المصلِّي فيها وَحْدَه، والخزانة بلَحْنٍ يشاركه غيره فيه، فكانت الفُرْس إذا أنكروا ذلك عليهم قالت اليهود: نحن نُغَنِّي وننوح على أنفسنا، فيُخَلُّون بينهم وبين ذلك.
وجاءت دولة الإسلام فأَمِنُوا فيها غاية الأَمْن، وتمكَّنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرَّت الخزانة سُنَّةً فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح وتعوَّضوا بها عن الصلاة.ص٣١٨
١٣٨-وضلالُ هذه الأمة الغضبيَّة وكَذِبُها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مَزِيدَ عليه. ص٣١٩
١٣٩-ويقولون-يقصد النصارى-: إنَّ الصلاةَ بالجنابة والبول والغائط أفْضَلُ من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذٍ أبْعَدُ من صلاة المسلمين واليهود، وأقْرَبُ إلى مخالفة الأُمَّتَيْن، ويستفتح الصلاةَ بالتَّصْليب بين عَيْنَيْه.
وهذه الصلاة ربُّ العالمين بريءٌ منها. وكذلك المسيحُ وسائِرُ النبيِّيْنَ، فإن هذه بالاستهزاء أشْبَهُ منها بالعبادةِ. وحاشى المسيحَ أنْ تكونَ هذه صلاته أو صلاة أحد من الحَوَارِيِّيْن، والمسيحُ كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياءُ وبنو إسرائيل يقرؤونه في صلاتهم من التوراة والزبور. ص٣٢٤
١٤٠-والمسيحُ حرَّم الخِنْزير، ولَعَن آكِلَه، وبالغ في ذَمِّه -والنصارى تُقِرُّ بذلك- ولَقِيَ الله لم يَطْعَمْ مِنْ لحمِه بوزن شعيرة، والنَّصارى تتقرَّبُ إليه بأكله.ص٣٢٥
١٤١-وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبًا من ثلاثمائة سنة، ثم أخذ القومُ في التغيير والتبديل والتقرُّب إلى الناس بما يَهْوَوْنَ، ومكايدةِ اليهود ومناقضتهم بما فيه تَرْكُ دين المسيح والانْسِلاخُ منه جملةً. ص٣٢٦
١٤٢-وكانوا كلَّما أرادوا إحْدَاث شيء اجتمعوا مجمعًا وافترقوا فيه على ما يُرِيْدون إحْدَاثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكْبَرُ منه في عهد قسطنطين الرُّوميِّ ابن هيلانة الحرَّانِيَّة الفندقية، وفي زمنه بُدِّل دين المسيح، وهو الذي شادَ دِينَ النَّصارى المبتَدَعَ وقام به وقَعدَ، وكان عدَّتُهم زهاء أَلْفَي رجلٍ،فقرَّروا تقريرًا ثم رفضوه ولم يرتضوه.
ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانيةَ عَشَر رجلًا منهم -والنصارى يسمُّونهم الآباء- فقرَّروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم، لا يتمُّ لأحدٍ منهم نصرانيَّةٌ إلا به، ويسمُّونه «سنهودس» وهي «الأمانة»!!
ثم ذكر ابن القيم-رحمه الله- ألفاظها تعالى الله عما يقولون وقاتلهم الله أنى يؤفكون في عدة ورقات .ص٣٢٩--٣٣٤
١٤٣-فيا مَعْشَرَ المثلِّثة وعُبَّاد الصليب! أخْبِرُونا مَنْ كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربُّها وخالقها مربوطًا على خشبة الصليب وقد شدت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوًا من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر؟!.
ثم ذكر بعد هذا عقائد النصارى المحرفة لفظا ومعنى،ورد كل ما يعتقدونه، وأبطل كل ما يتشبثون به وما حرفوه بحجج قاطعة ملجمة يجدر بكل مناظر لهم وفاضح لأديانهم أن يراجعها ويستفيد منها. ص٣٤١--٣٧١
١٤٤- وكل من ادَّعى الإلهيَّة من دون الله فهو من أعظم أعداء الله كفرعون ونمرود وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله ونبوَّته ورسالته، وجعلتموه من أعظمِ أعداءِ الله، ولهذا كنتم أشدَّ الناس عداوةً للمسيح في صورة مُحِبٍّ مُوالٍ!! ومن أعظم ما يُعْرَفُ به كذب المسيحِ الدجَّال أنَّه يدَّعي الإلهيَّة، فيبعث اللهُ عَبْدَهُ ورسولَه مسيحَ الهدى ابنَ مريم فيقتله، ويُظْهِر للخلائق أنه كان كاذبًا مفتريًا. ولو كان إلهًا لم يقتل، فضلًا عن أن يُصْلَب ويُسَمر ويُبْصَقَ في وجهه!!.ص٣٤٥
١٤٥-وقال تعالى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الايمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وهو نظير قوله: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ ..
وقوله: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ .
وقوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾.
فأولياء الله يعرفونه ويحبونه، ويُجلُّونه، ويقال: هو في قلوبهم، والمراد: مَحَبَّتُه ومعرفته، والمَثَلُ الأعَلى في قلوبهم، لا نَفْسُ ذاته، وهذا أمرٌ يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، ولا زلتَ في عيني. ص٣٥٥-٣٥٦
١٤٦-والمضاف إلى الله إذا كان ذاتًا قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله، وناقة الله، وروح الله، وليس المرادَ به: بيتٌ يسكنُه، ولا ناقةٌ يركَبُهَا، ولا روحٌ قائمة به، وقد قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ﴾. وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا﴾ . فهذه الروح أيَّد بها عبادَهُ المؤمنين. ص٣٦٠
١٤٧-فإن قيل: إنكم لا تَدْعونَ محمدًا إلهًا، بل هو عندكم عبدٌ محض؟
قيل لهم: نعم واللهِ، إنه لكذلك عبدٌ محضٌ لله، والعبودية أجلُّ مراتبه، واسم «الإله» من جهة التراجم جاء، والمراد به السيِّد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق. ص٣٦٢-٣٦٣
١٤٨-وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلَّف مثلك، وأنا والدك. وإذا رأوا تلميذًا لعالم تعلَّم عِلْمَه قالوا: هذا فلان باسم أُستاذه. كما كان يقال عن عكرمة: هذا ابن عباس، وعن أبي حامدٍ: هذا الشافعيُّ. وَإِذا بعث الملك نائبًا يقوم مقامه في بلد قال الناس: جاء المَلِك، وحكم الملك، ورسم الملك.ص٣٦٥
١٤٩-في قوله: ﴿بَلْ جَاَءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ . فإن المرسلين بشَّروا به وأخبروا بمجيئه، فمجيئه هو نفس (صدق خبرهم)، فكان مجيئه تصديقًا لهم؛ إذْ هو تأويل ما أخبروا به. ولا تنافي بين هذا وبين القول الآخر: إنَّ تصديقَه المرسلين شهادتُه بصِدْقِهم وإيمانُه بهم، فإنه صدَّقهم بقوله ومجيئه، فشهد بصِدْقِهم بنفس مجيئهِ، وشهد بصدقهم بقوله.ص٣٧١
١٥٠-فعادة الله في رسله أنَّ السابق يبشِّر باللَّاحِقِ، واللَّاحِقِ يصدِّق السابقَ.
ولو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث: لَبَطَلَتْ نبوةُ الأنبياء قبله. ص٣٧٢
١٥١-والله سبحانه لا يخلف وَعْدَه ولا يكْذِبُ خَبَرُه. وقد كان بشَّر إبراهيمَ وهَاجَرَ بشاراتٍ بيِّناتٍ، ولم نرها تَمَّتْ ولا ظهرتْ إلا بظهور رسول الله ﷺ فقد بُشِّرت به هاجر من ذلك بما لم تبشَّر به امرأةٌ من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أنَّ مريم بُشِّرت به مرةً واحدة، وبُشِّرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبُشِّر به إبراهيم مرارًا، ثم ذكر الله -سبحانه- هاجر بعد وفاتها كالمخاطِب لها على ألسنة الأنبياء-يقصد في التوراة-.ص٣٧٢
١٥٢-ولهذا لما علم الكُفَّار من أهل الكتاب أنَّه لا يمكن الإيمانُ بالأنبياء المتقدِّمين إلا بالإيمان بالنبيِّ الذي بشّروا به قالوا: نحن في انتظاره ولم يجئ بعد، ولما عَلِمَ بعضُ الغلاة في كفره وتكذيبه منهم: أنَّ هذا النبيَّ في ولد إسماعيل، أنكروا أن يكون لإبراهيم ولدٌ اسمه إسماعيل، وأن هذا لم يخلقه الله!
ولا يكثر على أمة البَهْتِ وإخوانِ القرود وقَتَلَةِ الأنبياء مثلُ ذلك، كما لم يكثر على المثلِّثة عُبَّاد الصليب -الذين سبُّوا رب العالمين أعظم مسبَّة- أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا ﷺ. ص٣٧٥
١٥٣-فإذا كفرتم -مَعَاشِرَ المثلِّثة عُبَّادَ الصليب- بالقرآن لم يتحقَّقْ لعيسى ابنِ مريمَ آيةٌ ولا فضيلةٌ، فإنَّ أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها،لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف وعدم تيقنكم لجميع أمره.ص٣٧٧
١٥٤-وأما خبر ما عندكم أنتم-يقصد النصارى-؛ فلا نعلم أمةً من الأمم أشدَّ اختلافًا في معبودها ونبيِّها ودينها منكم. فلو سألتَ الرَّجلَ وامرأتَه وابنته وأمَّه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر.
ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدِّين لتفرَّقوا عن أحدَ عَشَر مذهبًا مع اتِّفاق فِرَقِهمُ المشهورةِ!!.ص٣٨٠
١٥٥-قالت اليعقوبية -أتباع يعقوب البَرَادعيِّ ولقب بذلك لأنَّ لباسه كان من خرق بَرَادِع الدوابِّ يَرْقَعُ بعضَها ببعضٍ ويلبسها-: إنَّ المسيح طبيعةٌ واحدة منَ طبيعتين: «إحداهما» طبيعة الناسوت، «والأخرى» طبيعة اللاهوت.
وأنَّ هاتين الطبيعتين تَرَكَّبتَا فصار إنسانًا واحدًا، وجوهرًا واحدًا، وشخصًا واحدًا. فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إلهٌ كلُّه، وإنسانٌ كلُّه، وهو شخص واحد، وطبيعة واحدة من طبيعتين. ص٣٨١
١٥٦-وقالت «الملكية»: -وهم الروم نسبة إلى دين الملِك لا إلى رجل يدعى ملكانا هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك-: إنَّ الابن الأزَلِيَّ الذي هو الكلمةُ تجسَّدت من مريم تجسُّدًا كاملًا كسائر أجساد الناس، ورُكِّبت في ذلك الجسد نفسًا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانًا بالجسد والنفس اللَّذَيْن هما من جوهر الناس، وإلهًا بجوهر اللَّاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس مثل إبراهيمَ وموسى وداود، وهو شخص واحدٌ لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللَّاهوت كما لم يزل، وصحَّ له جوهر الناسوت الذي لَبِسَه ابنُ مريم، وهو شخص واحد -لم يزد عدده- وطبيعتان، ولكلِّ واحدةٍ من الطبيعتين مَشِيئةٌ كاملة، فله بلاهوته مشيئةٌ مِثْلُ الأب، وله بناسوته مشيئةٌ كمشيئة إبراهيم وداود. ص٣٨٢
١٥٧-وأما النَّسْطُوريَّة: فذهبوا إلى القول بأنَّ المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وأنَّ طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة، واللَّاهوت لا يقبل زيادةً ولا نقصانًا، ولا يمتزج بشيء. والنَّاسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيحُ -بذلك- إلهًا وإنسانًا، فهو الإله بجوهر اللَّاهوت الذي لا يَقْبل الزيادة والنقصان، وهو إنسانٌ بجوهر النَّاسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان. وقالوا: إنَّ مريم ولدت المسيح بناسوته وإنَّ اللاهوت لم يفارقه قط. ص٣٨٣
١٥٨-وقالت الأَرْيُوسيَّة منهم -: وهم أتباع أريوس- إنَّ المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مَرْبُوبٌ مخلوقٌ مصنوع، وكان النَّجاشِيُّ على هذا المذهب. وإذا ظَفِرَت، المثلِّثة بواحدٍ من هؤلاء قتلتْه شَرَّ قِتْلة، وفعلوا به ما يُفْعَل بمن سبَّ المسيح وشتمه أعْظَمَ سبٍّ. ص٣٨٥
١٥٩-قال ابن القيم -رحمه الله :
فصل في ذكر استنادهم-أي النصارى- في دينهم إلى أصحاب المجامع الذين كفَّر بعضُهم بعضًا، ولعن بعضهم بعضًا، وتَلَقِّيْهِم أُصولَ دينهم عنهم.
ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ، وتوسط، وانتهى، حتى كأنك تراه عِيَانًا.
قلت: وقد ذكر -رحمه الله- قصة دين النصارى من أول بعثة عيسى-عليه السلام -وتفرق الحواريون في البلاد -بعد رفعه-يدعون الأمم إلى توحيد الله ودينه ،وما مر به من أطوار بعدهم ،وما حصل للنصارى بعد ذلك من قتل وتشريد على أيدي ملوك جبابرة كانوا يكرهون دينهم إلى زمن قسطنطين،وأن بولس الشمشاطي هو أول من أفسد دين النصارى، وكيف حُرّف الدين الصحيح،وكثر اختلافهم حول المسيح، وذكر مجامعهم وهي عشرة كانت ولا زالت مجتمعة على باطل إلى أن قال في آخرها : فانقرضت هذه المجامع والحشود، وهم علماءُ النصارى وقدماؤهم وناقِلُو الدِّين إلى المتأخرين، وإليهم يستند مَنْ بعدهم.
وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاءِ أربعةَ عَشَرَ ألفًا من الأساقفة والبتاركة والرهبان، كلُّهم يكفِّر بعضُهم بعضًا، ويلعنُ بعضُهم بعضًا. فدِيْنُهُم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض، وكلٌ منهم لاعنٌ ملعونٌ. ص٣٨٦--٤٢٥
١٦٠- فإذا كانت هذه حال المتقدِّمين مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم، والدولةُ دولتهم والكلمةُ لهم، وعلماؤهم إذْ ذاك أوفرُ ما كانوا، واحتفالُهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى، ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعنٍ وملعونٍ لا يثبت لهم قَدَمٌ، ولا يتحصَّل لهم قول في معرفة معبودهم. بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وباح باللَّعن والبراءة ممَّن اتَّبع سواه.
فما الظنُّ بحُثَالةِ الماضين، ونُفَايةِ الغَابِرين، وزُبَالةِ الحائرين، وذُرِّيَّة الضَّالين، وقد طال عليهم الأمد، وبَعُد العهد، وصار دينُهم ما يتلقَّونه عن الرُّهْبان. وقوم إذا كشفت عنهم وَجَدْتَهم أشبَه شيءٍ بالأنعام، وإن كانوا في صُوَر الأنام، بل هم كما قال تعالى -ومن أصدق من الله قيلًا-: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: ﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ .
ومن أمة الضلال بشهادة الله ورسوله عليهم، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضًا. ص٤٢٦
١٦١-القسم الثاني : في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بجميع أنواع الدلائل :
قال -رحمه الله- فصل: في أنه لا يمكن الإيمان بنبيٍّ من الأنبياء أصلًا مع جحود نبوة محمدٍ رسول الله ﷺ، وأنَّه من جحد نبوَّته فهو لنبوَّةِ غيره من الأنبياء أشدُّ جَحْدًا.
وهذا يتبيَّن بوجوه:
ثم ذكر ثلاثة وجوه، كان قد أشار لها في أوائل الكتاب، وذكر شيئا من التفصيل في الوجه الثالث وفيه نفائس يُرحل إلى معرفة مثلها تتعلق بآيات من الكتاب المبين !!ص ٤٣١--٤٣٨
١٦٢-فالعِلمُ بآيات نبوته -يقصد نبينا صلى الله عليه وسلم-كالعِلْمِ بنفس وجوده وظهورِه وبَلَدِه، بحيث لا يمكن المكابرة في ذلك، والمكابِرُ فيه في غاية الوقاحة والبَهْت، كالمكابر في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده هو من البلادوالأقاليم والجبال والأنهار.
فإن جاز القَدْحُ في ذلك كلِّه، فالقدحُ في وجود عيسى وموسى وآياتِ نبوتهما أَجْوَزُ وأجوز، وإن امتنع القَدْح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد ﷺ وآيات نبوته أشدُّ.
ولذلك لمَّا علم بعضُ علماءِ أهلِ الكتاب أنَّ الإيمان بموسى لا يتمُّ مع التكذيب بمحمد أبدًا كَفَر بالجميع، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. ص٤٣٢-٤٣٣
١٦٣-فالرسولُ -صلوات الله عليه- إنما جاء بتعريفِ الربِّ -تعالى-بأسمائِهِ وصفاتهِ وأفعالِه، والتعريفِ بحقوقِه على عباده، فمَنْ أنكر رسالاتِه فقد أنكرَ الربَّ الذي دعا إليه، وحُقوقَهُ التي أمَرَ بها. بل نقول: لا يمكن الاعترافُ بالحقائق -على ما هي عليه- مع تكذيب رسوله.
وهذا ظاهرٌ جدًّا لمن تأمَّل مقالاتِ أهلِ الأرض وأديانَهُمْ:
ثم ذكر مقالات:
الفلاسفة وأشار للمجوس، وعباد الأصنام، والنصارى الذين وصفوا الله بما هو من أعظم العيوب والنقائص، ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه ،واليهود وأطال في ذكر جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم الذي يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض. ثم قال في آخر هذا الفصل:
وهذا وأضعافُه -من الجهل وفساد العقل- قليلٌ على من كذَّب رُسُلَ الله، وجَاهَرَ بمعاداتِهِ ومعاداة ملائكتِه وأنبيائِه وأهلِ ولايتِهِ.
فأيُّ شيء عَرَفَ من لم يَعْرفِ اللهَ ورُسُلَه؟! وأيُّ حقيقةٍ أدرك من فاتَتْهُ هذه الحقيقة؟! وأيُّ علمٍ أو عملٍ حصل لمن فاته العِلْمُ بالله، والعملُ بمرضاته، ومعرفةُ الطريقِ الموصلةِ إليه، ومآله بعد الوصولِ إليه؟!ص٤٣٩--٤٤٨
١٦٤-فأهلُ الأرضِ كلُّهم في ظلمات الجهلِ والغيِّ إلا من أَشْرَق عليه نورُ النبوة،ولذلك بَعَثَ اللهُ رُسُلَه لِيُخْرِجُوا النَّاسَ من الظُّلماتِ إلى النُّور، فمَنْ أجابهم: خرجَ إلى الفَضَاءِ والنُّورِ والضِّياءِ، ومَنْ لم يُجبْهم: بَقِيَ في الضِّيق والظُّلْمَةِ التي خُلِق فيها، وهي: ظلمة الطَّبْع، وَظلمة الجهلِ، وظلمة الهوى، وظلمة الغَفْلة عن نفسه وكمالها، وما تسعد به في معاشِهَا ومَعَادِهَا. ص٤٤٨-٤٤٩
١٦٥-والمؤمنُ: عَمَلُه نورٌ، وقولُه نورٌ، ومدخلُه نورٌ، ومخرجُه نورٌ، وقَصْدُه نورٌ، فهو يتقلَّب في النور في جميع أحواله.
آخر هذه الخلاصات والإفادات .
والحمدُ للهِ أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، وصلَّى اللهُ على سيِّدِنا محمدِ خاتَمِ النبيِّينَ وعلى آلِه وصَحْبه أجمعينَ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ. والحمد لله رب العالمين.
قال أحد نساخ الكتاب :
تمَّ الكتاب المستطاب بعون الله الوهاب. كتبه الحقير الفقير إلى رحمة ربِّه القدير: مصطفى رشدي بن أحمد قليوزي، غفر ذنوبهما وستر عيوبهما الباري، في السنة خمس وسبعين ومائتين وألف. وأتمَّه في اليوم: إحدى وعشرين ربيع الأول في ليلة الجمعة، وعلى حساب أبجد سنة في غرعه في يوم كافي ليلها. سنة ١٢٧٥. وأنا الفقير مصطفى رشدي وجدت قائلًا يقول: اعلم أن هذا الكتاب كتاب جليل، لكن لم ينتشر بين أهل التحصيل، لم أر ولم أسمع -مع فرط التتبع- أن أحدًا ملأ عينيه لسَنا برقه، أو كرع من حياض رياض تملكه فضلًا عن مطالعة مطالع غرره في غربه وشرقه. أحمد الله على توفيق كتابته ومطالعته من محض فضله وعنايته ونعمه".
قلت: قد أثنى على هذا الكتاب مصنفه كما في أوله، وختمها الناسخ أيضا بذكر ونقل الثناء عليه أيضا، فحري بكل طالب وعالم أن يقتنيه، وخاصة في هذه الأوقات المستطيرة بالشرور والآفات، ففي الكتاب من الحجج والبراهين ما يرشد الحيارى إلى إبطال حجج وأديان اليهود والنصارى .