ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع، مع قصور أذهاننا، ونقص علومنا ومعارفنا وتلاشيها، بل وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس، وهذا تقريب، وإلا فالأمر فوق ذلك.
وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة؟!
وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل، وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟
وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات؛ فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحكم والمصالح والعلل الغائية، فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع، ولا يمكنهم دفعه عن نفوسهم؛ خلوا الشرائع وراء ظهورهم، وأساؤوا بها الظن، وقالوا: لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا، ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا، ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحكم والقوى والطبائع، ولا سبيل إلى نفيها، فنفوا الفاعل المختار، وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار، ورأوا أنهم لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحكم والقوى والعلل فنفوها، وبين الطائفتين بعد المشرقين.
ولا تستهن بأمر هذه المسألة؛ فإن شأنها أعظم، وخطرها أجل، وفروعها كثيرة جدا.
ومن فروعها: أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله سبحانه من المطر والنبات والحيوان، والحر والبرد، والليل والنهار، والإهلال والإبدار والكسوف، والاستسرار، وحوادث الجو، وحوادث الأرض= انقسموا قسمين، وصاروا طائفتين:
فطائفة جعلت الموجب لذلك مجرد ما رأوه علة وسببا من الحركات الفلكية، والقوى الطبيعية، والنفوس والعقول، فليس عندهم لذلك فاعل مختار مريد.
وقابلهم طائفة من المتكلمين فلم يثبتوا لذلك سببا إلا مجرد المشيئة والقدرة، وأن الفاعل المختار يرجح مثلا على مثل بلا مرجح ولا سبب ولا حكمة، ولا غاية يفعل لأجلها.
ونفوا الأسباب والقوى والطبائع والغرائز والحكم والغايات، حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم: إن الفلك والرحا ونحوهما مما يدور يتفكك عند الدوران دائما، والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان، وإن الألوان والمقادير والأشكال والصفات تعدم على تعاقب الآنات، والقادر المختار يعيدها كل وقت، وإن ملوحة ماء البحر كل لحظة تعدم وتذهب، ويعيدها القادر المختار، كل ذلك بلا سبب ولا حكمة ولا علة غائية.
ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص من قول الفلاسفة أعداء الرسل إلا بذلك، ورأى أعداء الرسل أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة إلا بالتزام أصول هؤلاء.
ولم تهتد الطائفتان للحق الذي لا يجوز غيره، وهو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب وحكم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القوى والطبائع والغرائز والأسباب والمسببات ما به قام الخلق والأمر.
وهذا قول جمهور أهل الإسلام وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة، إلا من خلى الفقه ناحية وتكلم بأصول النفاة، فعادى فقهه أصول دينه.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (2/ 160 - 162)