وهاهنا سرٌّ بديعٌ من أسرار الخلق والأمر، به يتبيَّنُ لك حقيقةُ الأمر؛ وهو أن الله لم يخلق شيئًا ولم يأمر بشيءٍ ثمَّ أبطله وأعدمه بالكلِّية، بل لا بدَّ أن يثبته بوجهٍ ما؛ لأنه إنما خلقه لحكمةٍ له في خلقِه، وكذلك أمرُه به وشرعُه إياه هو لِمَا فيه من المصلحة.
ومعلومٌ أنَّ تلك المصلحة والحكمة تقتضي إبقاءه، فإذا عارض تلك المصلحة مصلحةٌ أخرى أعظمُ منها كان ما اشتملت عليه أولى بالخلق والأمر، ويُبْقِي في الأولى ما شاء من الوجه الذي يتضمَّنُ المصلحة، ويكونُ هذا من باب تزاحم المصالح، والقاعدةُ فيها شرعًا وخلقًا تحصيلُها واجتماعُها بحسب الإمكان، فإن تعذَّر قدِّمت المصلحةُ العظمى وإن فاتت الصُّغرى.
وإذا تأمَّلتَ الشريعةَ والخلق رأيتَ ذلك ظاهرًا، وهذا سرٌّ قلَّ من تفطَّن له من النَّاس.
فتأمَّل الأحكام المنسوخة حكمًا حكمًا، كيف تجدُ المنسوخَ لم يبطُل بالكلِّية، بل له بقاءٌ بوجه:
فمن ذلك: نسخُ القبلة وبقاءُ بيت المقدس معظَّمًا محترمًا، تُشَدُّ إليه الرِّحال، ويُقْصَدُ بالسَّفر إليه وحطِّ الأوزار عنده، واستقباله مع غيره من الجهات في السَّفر، فلم يبطُل تعظيمُه واحترامُه بالكلِّية، وإن بطل خصوصُ استقباله بالصَّلوات، فالقصدُ إليه ليصلَّى فيه باقٍ، وهو نوعٌ من تعظيمه وتشريفه بالصَّلاة فيه، والتوجُّهُ إليه قصدًا لفضيلته وشرفه له نسبةٌ من التوجُّه إليه بالاستقبال في الصَّلوات.
فقُدِّم البيتُ الحرام عليه في الاستقبال؛ لأنَّ مصلحتَه أعظمُ وأكمل، وبقي قصدُه وشدُّ الرحال إليه والصَّلاةُ فيه مَنْشَأً للمصلحة؛ فتمَّت للأمَّة المحمَّدية المصلحتان المتعلِّقتان بهذين البيتين، وهذا نهايةُ ما يكونُ من اللُّطف وتحصيل المصالح وتكميلها لهم؛ فتأمَّل هذا الموضع.
ومن ذلك: نسخُ التَّخيير في الصَّوم بتعيينه؛ فإنَّ له بقاءً وبيانًا ظاهرًا، وهو أنَّ الرجل كان إذا أراد أفطر وتصدَّق، فحصلت له مصلحةُ الصَّدقة دون مصلحة الصَّوم، وإن شاء صام ولم يَفْدِ، فحصلت له مصلحةُ الصَّوم دون الصَّدقة، فحُتِّمَ الصَّومُ على المكلَّف لأنَّ مصلحته أتمُّ وأكملُ من مصلحة الفدية، ونُدِبَ إلى الصَّدقة في شهر رمضان؛ فإذا صام وتصدَّق حصلت له المصلحتان معًا، وهذا أكملُ ما يكونُ من الصَّوم، وهو الذي كان يفعلُه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان أجودَ ما يكونُ في رمضان، فلم تبطُل المصلحةُ الأولى جملةً، بل قُدِّم عليها ما هو أكملُ منها وجوبًا، وشُرِع الجمعُ بينها وبين الأخرى ندبًا واستحبابًا.
ومن ذلك: نسخُ ثبات الواحد من المسلمين للعشرة من العدوِّ بثباته للاثنين، ولم تبطُل الحكمةُ الأولى من كلِّ وجه، بل بقي استحبابُه وإن زال وجوبُه، بل إذا غلبَ على ظنِّ المسلمين ظفرُهم بعدوِّهم وهم عشرةُ أمثالهم وجبَ عليهم الثَّباتُ وحرُم عليهم الفرار، فلم تبطُل الحكمةُ الأولى من كلِّ وجه.
ومن ذلك: نسخُ وجوب الصَّدقة بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لم يبطُل حكمُه بالكلِّية، بل نُسِخ وجوبُه، وبقي استحبابُه والنَّدبُ إليه وما عُلِم من تنبيهه وإشارته وهو أنه إذا استُحِبَّت الصَّدقةُ بين يدي مناجاة المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاةِ الله عند الصَّلوات والدُّعاء أولى، فكان بعضُ السَّلف الصَّالح يتصدَّقُ بين يدي الصَّلاة والدَّعاء إذا أمكنه، ويتأوَّلُ هذه الأولوية، ورأيتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية يفعلُه ويتحرَّاه ما أمكنه، وفاوضتُه فيه، فذكر لي هذا التَّنبيه والإشارة.
ومن ذلك: نسخُ الصَّلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس، فإنها لم تبطُل بالكلية، بل أُثبِتَت خمسين في الثَّواب والأجر، وجُعِلت خمسًا في العمل والوجوب، وقد أشار تعالى إلى هذا بعينه حيثُ يقول على لسان نبيِّه: «لا يُبَدَّلُ القولُ لديَّ، هي خمسٌ وهي خمسون في الأجر».
فتأمَّل هذه الحكمة البالغة والنعمة السَّابغة؛ فإنه لما اقتضت المصلحةُ أن تكون خمسين، تكميلًا للثَّواب وسَوْقًا لهم بها إلى أعلى المنازل، واقتضت أيضًا أن تكون خمسًا؛ لعجز الأمَّة وضعفهم وعدم احتمالهم الخمسين= جعلها خمسًا من وجهٍ وخمسين من وجه؛ جمعًا بين المصالح وتكميلًا لها.
ولو لم تطَّلع من حكمته في شرعه وأمره ولطفه بعباده ومراعاة مصالحهم وتحصيلها لهم على أتمِّ الوجوه إلا على هذه الثَّلاثة وحدها لكفى بها دليلًا على ما وراءها.
فسُبحان من له في كلِّ ما خلق وأمر حكمةٌ بالغةٌ شاهدةٌ له بأنه أحكمُ الحاكمين وأرحمُ الراحمين، وأنه الله الذي لا إله إلا هو ربُّ العالمين.
ومن ذلك: الوصيةُ للوالدين والأقربين؛ فإنها كانت واجبةً على من حضره الموتُ، ثمَّ نسخ الله ذلك بآية المواريث، وبقيت مشروعةً في حقِّ الأقارب الذين لا يَرِثون. وهل ذلك على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ فيه قولان للسَّلف والخلف، وهما في مذهب أحمد.
فعلى القول الأوَّل بالاستحباب، إذا أوصى للأجانب دونهم صحَّت الوصية، ولا شيء للأقارب.
وعلى القول بالوجوب فهل لهم أن يُبطِلوا وصية الأجانب ويختصُّوا هم بالوصية، كما للورثة أن يُبطِلوا وصية الوارث، أو يُبطِلوا ما زاد على ثلث الثُّلث ويختصُّوا هم بثلثيه، كما للورثة أن يُبطِلوا ما زاد على ثلث المال من الوصية، ويكون الثُّلثُ في حقِّهم بمنزلة المال كلِّه في حقِّ الورثة؟ على وجهين.
وهذا الثَّاني أقْيسُ وأفقَه، وسرُّه أنَّ الثُّلثَ لما صار مستحقًّا لهم كان بمنزلة جميع المال في حقِّ الورثة، وهم لا يكونون أقوى من الورثة، فكما لا سبيل للورثة إلى إبطال الوصية بالثُّلث للأجانب، فلا سبيل لهؤلاء إلى إبطال الوصية بثلث الثُّلث للأجانب.
وتحقيقُ هذه المسائل والكلام على مآخذها له موضعٌ آخر.
والمقصودُ هنا أنَّ إيجابَ الوصية للأقارب وإن نُسِخ لم يبطُل بالكلِّية، بل بقي منه ما هو مَنْشَأ المصلحة ــ كما ذكرناه ــ، ونُسِخ منه ما لا مصلحة فيه، بل المصلحةُ في خلافه.
ومن ذلك: نسخُ الاعتداد في الوفاة بحولٍ بالاعتداد بأربعة أشهرٍ وعشر، على المشهور من القولين في ذلك، فلم تبطُل العِدَّة الأولى جملةً.
ومن ذلك: حبسُ الزَّانية في البيت حتى تموت؛ فإنه على أحد القولين لا نسخَ فيه؛ لأنه مُغَيًّا بالموت أو يجعل الله لهنَّ سبيلًا، وقد جعل الله لهنَّ سبيلًا بالحدِّ، وعلى القول الآخر هو منسوخٌ بالحدِّ، وهو عقوبةٌ من جنس عقوبة الحبس.
فلم تبطُل العقوبةُ عنها بالكلِّية، بل نُقِلت من عقوبةٍ إلى عقوبة، وكانت العقوبةُ الأولى أصلحَ في وقتها؛ لأنهم كانوا حَدِيثي عهدٍ بجاهلية وزنًا، فأُمِروا بحبس الزَّانية أوَّلًا، ثمَّ لما استوطنت أنفسُهم على عقوبتها، وخرجوا عن عوائدهم الجاهلية، ورَكنوا إلى التَّحريم والعقوبة= نُقِلوا إلى أغلظُ من العقوبة الأولى، وهو الرجمُ والجلد؛ فكانت كلُّ عقوبةٍ في وقتها هي المصلحة التي لا يُصْلِحُهم سواها.
وهذا الذي ذكرناه إنما هو في نسخ الحكم الذي ثبتَ شرعُه وأمرُه، وأمَّا ما كان مُسْتَصْحَبًا بالبراءة الأصلية فهذا لا يلزمُ مِنْ رفعه بقاءُ شيءٍ منه؛ لأنه لم يكن مصلحةً لهم، وإنما أُخِّر عنهم تحريمُه إلى وقتٍ لضربٍ من المصلحة في تأخير التَّحريم، ولم يلزم من ذلك أن يكون مصلحةً حين فِعْلِهم إياه.
وهذا كتحريم الرِّبا والمُسْكِر وغير ذلك من المحرَّمات التي كانوا يفعلونها استصحابًا لعدم التَّحريم؛ فإنها لم تكن مصلحةً في وقت، ولهذا لم يشرعها الله تعالى، ولهذا كان رفعُها بالخطاب لا يسمَّى نسخًا، إذ لو كان ذلك نسخًا لكانت الشريعةُ كلُّها نسخًا، وإنما النَّسخُ رفعُ الحكم الثَّابت بالخطاب، لا رفعُ مُوجَب الاستصحاب، وهذا متَّفقٌ عليه.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 938 - 943 ط عطاءات العلم)