ومنها: حبُّ الوحدة، والأنس بالخلوة، والتفرُّد عن الناس، وكأنَّ المحبة قد ثبتت على ذلك، فلا شيء أحلى للمحبِّ الصادق من خلوته، وتفرُّده، فإنَّه إن ظفر بمحبوبه أحبَّ خلوته به، وكره من يدخلُ بينهما غاية الكراهة.
ولهذا السرِّ ــ والله أعلم ــ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بردِّ المارّ بين يدي المُصلِّي حتى أمر بقتاله، وأخبرَ أنَّه لو يدري ما عليه من الإثم؛ لكان وقوفُه أربعين خيرًا له من مروره بين يديه. ولا يجدُ ألم المرور وشدَّته إلا قلب حاضرٌ بين يدي محبوبه، مقبلٌ عليه، قد ارتفعت الأغيار بينه وبينه، فمرورُ المارِّ بينه وبين ربِّه بمنزلة دخول البغيض بين المحب ومحبوبه، وهذا أمرٌ الحاكم فيه الذوق، ولا يُنكره.
وقال ابن مسعود: مرور المارِّ بين يدي المُصلِّي يُذهب نصف أجره، ذكره الإمام أحمد.
وأيضًا فإنَّ المحب يستأْنس بذكر محبوبه، وكونه في قلبه لا يُفارقه، فهو أنيسُه، وجليسه، لا يستأنسُ بسواه، فهو مستوحشٌ مِمَّن يَشْغَلُهُ عنه. وحدَّثني تقيُّ الدِّين بن شُقير، قال: خرج شيخُ الإسلام ابن تيمية يومًا، فخرجتُ خلفه، فلما انتهى إلى الصحراء، وانفرد عن الناس بحيثُ لا يراه أحد؛ سمعته يتمثَّل بقول الشاعر:
وأخرُج من بين البيوت لعلَّني … أحدِّث عنك القلب بالسِّرِّ خاليا
فخلوةُ المحب بمحبوبه هي غاية أُمنيَّته، فإن ظفر بها؛ وإلَّا خلا به في سرِّه، وأوحشه ذلك من الأغيار.
وكان قيسُ بن المُلوَّح إذا رأى إنسانًا هرب منه، فإذا أراد أن يدنو منه ويحادثه؛ ذكر له ليلى وحديثها، فيأنَسُ به، ويسكنُ إليه.
وينبغي للمحبِّ أن يكون من الناس كما قال يوسف لإخوته، وقد طلب منهم أخاهم: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} [يوسف/60].
إذا لم تكن فيكُنَّ سُعدى فلا أرى … لكنَّ وُجوهًا أو أُغيَّبَ في لَحْدي
روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 393 - 394)