وتأمَّل الحكمةَ البديعةَ في تيسيره سبحانه على عباده ما هم أحوجُ إليه وتوسيعه وبَذْلِه، فكلَّما كانوا أحوجَ إليه كان أكثرَ وأوسع، وكلَّما استغنَوا عنه كان أقلَّ، وإذا توسَّطت الحاجةُ توسَّط وجودُه، فلم يكن بالعامِّ ولا بالنادر، على مراتب الحاجات وتفاوتها.
فاعتَبِر هذا بالأصول الأربعة: التُّراب والماء والهواء والنَّار، وتأمَّل سَعة ما خلق الله منها وكثرتَه وعمومَه.
فتأمَّل سَعة الهواء وعمومَه ووجودَه بكلِّ مكان؛ لأنَّ الحيوانَ المخلوق في البرِّ لا يمكنُه الحياةُ إلا به، فهو معه أين كان وحيثُ كان؛ لأنه لا يستغني عنه لحظةً واحدة، ولولا كثرتُه وسَعتُه وامتدادُه في أقطار العالم لاختنقَ أهل العالَم من الدُّخان والبُخَار المتصاعد المُنعقِد.
فتأمَّل حكمةَ ربك في أنْ سخَّر له الرياح، فإذا تصاعدَ إلى الجوِّ أحالتهُ سحابًا أو ضبابًا، فأذهبَت عن العالم شرَّه وأذاه.
فسَلِ الجاحدَ: من الذي دبَّر هذا التَّدبيرَ وقدَّر هذا التقدير؟ وهل يقدرُ أهل العالَم كلُّهم لو اجتمعوا أن يُحِيلوا ذلك ويقلبوه سحابًا أو ضبابًا، أو يُذْهِبوه عن النَّاس ويكشفوه عنهم؟
ولو شاء ربُّه تعالى لحبَسَ عنه الرياح فاختنقَ على وجه الأرض، فأهلَك ما عليها من الحيوان والنَّاس.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 634 - 635 ط عطاءات العلم)