وقريب من هذه المناظرة ما جرى لبعض علماء المسلمين مع بعض اليهود ببلاد المغرب.
قال له المسلم: في التوراة التي بأيديكم إلى اليوم أن الله قال لموسى: "إني أُقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيًّا مثلك أجعل كلامي على فيه، فمن عصاه انتقمت منه".
قال له اليهودي: ذلك يوشع بن نون.
فقال المسلم: هذا محال من وجوهٍ:
(أحدها) أنه قال عندك في آخر التوراة: "إنه لا يقوم في بني إسرائيل نبيٌّ مثل موسى".
(الثاني) أنه قال: "من إخوتهم". وإخوة بني إسرائيل إمَّا العربُ وإمّا الرُوم، فإنَّ العرب بنو إسماعيل، والروم بنو العيص، وهؤلاء إخوة بني إسرائيل. فأمَّا الروم فلم يقم منهم نبيٌّ سوى أيوب، وكان قبل موسى، فلا يجوز أن يكون هو الذي بشَّرت به التوراة، فلم يبق إلا العرب وهم بنو إسماعيل، وهم إخوة بني إسرائيل، وقد قال الله في التوراة حين ذكر إسماعيل جدَّ العرب: "إنه يضع فسطاطه في وسط بلاد إخوته" وهم بنو إسرائيل. وهذه بشارة بنبوة ابنه محمَّدٍ الذي نصب فسطاطه وملك أمته في وسط بلاد بني إسرائيل، وهي الشام التي هي مظهر ملكه كما تقدم من قوله: "وملكه بالشام".
فقال له اليهودي: فعندكم في القرآن: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85]. {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]. والعرب تقول: يا أخا بني تميم للواحد منهم، فهكذا قوله: "أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم".
قال المسلم: الفرق بين الموضعين ظاهر، فإنه من المحال أن يقال: إن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل، وبني تميم إخوة بني تميم، وبني هاشم إخوة بني هاشم. هذا ما لا يُعْقَل في لغة أمةِ من الأمم، بخلاف قولك: زيدٌ أخو بني تميم، وهود أخو عاد. وصالحٌ أخو ثمود أي واحد منهم، فهو أخوهم في النّسَب. ولو قيل: عاد أخو عاد، وثمود أخو ثمود، ومدين أخو مدين = لكَان نقصًا، وكان نظير (قولك: بنو إسرائيل) إخوة بني إسرائيل، فاعتبار أحد الموضعين بالآخر خطأ صريح .
قال اليهوديُّ: فقد أخبر أنه سيقيم هذا النبي لبني إسرائيل، ومحمدٌ إنما أُقيم للعرب ولم يقم لبني إسرائيل. فهذا الاختصاص يُشْعِر بأنَّه مبعوث إليهم لا إلى غيرهم.
قال المسلم: هذا من دلائل صدقه ، فإنه ادَّعى أنّه رسول الله إلى أهل الأرض، كِتابِيِّهِم وأُمّيِّهِم، ونصَّ الله في التوراة على أنّه يقيمه لهم لئلا يظنوا أنَّه مرسل إلى العرب والأميِّين خاصة ، والشيء يُخَصُّ بالذكر لحاجة المخاطب إلى ذِكْره لئلا يتوهم السامع أنّه غير مرادٍ باللفظ العام ولا داخلِ فيه، وللتنبيه على أنَّ ما عداه أولى بحكمه، ولغير ذلك من المقاصد، فكان في تعيين بني إسرائيل بالذكر إزالة لوهم من توهم أنه مبعوث إلى العرب خاصة، وقد قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [السجدة: 3، القصص: 46]. وهؤلاء قومه ولم يَنْفِ ذلك أن يكونَ نذيرًا لغيرهم، فلو أمكنك أن تذكر عنه أنه ادَّعى أنه رسول إلى العرب خاصة لكان ذلك حجة، فأما وقد نطق كتابُه، وعرف الخاصُّ والعامُّ بأنه ادَّعى أنه مرسل إلى بني إسرائيل وغيرهم فلا حجة لك.
قال اليهوديُّ: إن أسلافنا من اليهود كلّهم على أنه ادَّعى ذلك، ولكن العيسوية منا تزعم أنه نبيُّ العرب خاصة، ولسنا نقول بقولهم. ثم التفت إلى يهوديٍّ معه فقال: نحن قد جرى شأننا على اليهودية، وتالله ما أدري كيف التخلُّص من هذا العربي، إلا أنه أقل ما يجب علينا أن نأخذ به أنفسنا النهي عن ذِكْره بسوء.
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى - ط عطاءات العلم (1/ 202 - 204)