وقال مصعب بن سعد: "كان سعدٌ يقول: أي بَنِيَّ! تعلموا الرماية، فإنها خير لعبكم".
ذكره الطبراني في كتاب "فضل الرمي".
وذكر فيه أيضًا عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف قال: "كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عُبيدة بن الجراح: أنْ علِّموا غِلمانَكم العَوْم، ومقاتِلَتَكُم الرمي. فكانوا يختلفون في الأغراض، فجاء سهمٌ غربٌ، فقتل غلامًا وهو في حِجر خالٍ له، لا يُعْلَم له أصلٌ، فكتبَ أبو عُبيدة إلى عمر: إلى مَن أدفَعُ عَقْلَه؟ فكتب إليه عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارثُ من لا وارث له".
وقال علي بن الجعد: ثنا شعبة قال: أخبرني قتادة قال: سمعتُ أبا عثمان النهدي، يقول: "أتانا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأذربيجان. أما بعد: "فاتَّزروا، وارْتَدُوا، وانْتَعِلُوا، وألْقُوا الخِفَاف، وألقوا السَّراويلات، وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل، وإيَّاكم والتَّنعم وزيَّ العجم، وعليكم بالشمس؛ فإنها حمَّام العرب، وتمعْدَدوا، واخشَوْشنوا، واخلَوْلقوا، واقطعوا الرُّكُب، وانزوا على الخيل نَزوًا، وارتموا الأغراض".
قلتُ: هذا تعليم منه للفروسية، وتمرينُ البدن على التبذُّل وعدم الرَّفاهية والتنعُّم، ولزوم زِيِّ وَلَد إسماعيل بن إبراهيم، فأمرهم بالأتزار، والارتداء، والانتعال، وإلقاء الخفاف؛ لتعتاد الأرجل الحرَّ والبَرْد، فتتصلَّب وتقوى على دفع أذاهما.
وقوله: "وألقوا السَّراويلات": استغناء عنها بالأُزُر، وهو زِيُّ العرب.
وبين منفعتي الإزار والسَّراويلات تفاوت من وجه: فهذا أنفع من وجه، وهذا أنفع من وجه، فالإزار أنفع في الحرِّ، والسَّروايل أنفع في البرد، والسَّراويل أنفع للرَّاكب، والإزار أنفع للماشي.
وقوله: "وعليكم بثياب أبيكم إسماعيل": هذا يدلُّ على أن لباسَه كان الأزر والأردية.
وقوله: "وإيَّاكم والتنعُّم وزيِّ العجم": فإن التنعُّم يُخَنِّث النفس، ويكسبها الأنوثة والكسل، ويَخُوْن صاحبه أحوج ما يكون إلى نفسه، وما آثَرَه مَن أفلحَ.
وأما "زي العجم"؛ فلأنَّ المشابهة في الزِّيِّ الظاهر تدعو إلى الموافقة في الهَدْي الباطن، كما دلَّ عليه الشرع والعقل والحس، ولهذا جاءت الشريعة بالمنع من التشبُّه بالكفار والحيوانات والشياطين والنساء والأعراب وكل ناقصٍ.
حتى نهى في الصلاة عن التشبُّه بستة أنواع من الحيوان يفعلها - أو كثيرًا منها - الجُهَّال، نهى عن: نقر كنقر الديك والغراب، - وهي الصلاة التُرْكيَّة -، والتفاتٍ كالتفاتِ الثعلب، وإقعاءٍ كإقعاءِ الكلب، وافتراشٍ كافتراشِ السَّبع، وبروك كبروك الجمل، ورفع الأيدي يمينًا وشمالًا عند السلام كأذنابِ الخيل.
ونهى عن التشبُّه بالشياطين في الأكل والشرب بالشمال، وفي سائر خصال الشيطان.
ونهى عن التشبه بالكفار في زِيِّهم، وفي كلامهم وهديهم، حتى نَهَى عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح؛ فإن الكفار يسجدون للشمس في هذين الوقتين.
ونهى عن التشبُّه بالأعراب، وهم أهل الجفاء والبدو، فقال: "لا تغلِبَنَّكُمُ الأعرابُ على اسم صلاتِكم العتمة، وإنها العشاء في كتاب الله تعالى".
ولعن المتشبِّهين من الرجال بالنساء.
وقوله: "عليكم بالشمس؛ فإنها حمَّام العرب": فإن العرب لم تكن تعرف الحمَّام، ولا كان بأرضهم، وكانوا يتعوَّضون عنه بالشمس؛ فإنها تسخَّن وتحلِّل كما يفعل الحمَّام.
وقوله: "وتمعْدَدوا" أي: الزموا المَعَدِّيَّة، وهي عادةُ مَعَدِّ بن عدنان في أخلاقه وزِيِّه وفروسيته وأفعاله.
وقوله: "واخشوشنوا" أي: تعاطَوْا ما يوجِب الخشونة، ويصلِّب الجسم، ويصبِّره على الحرِّ والبرد والتعب والمشاق؛ فإن الرجل قد يحتاج إلى نفسه، فيجد عنده خشونة وقوَّة وصبرًا مالا يجدها صاحب التنعُّم والترفُّه، بل يكون العطب إليه أسرع.
وقوله: "واخلولِقوا": هو من قوله: اخلَوْلَق السَّحاب بعد تفرُّقه: أي: اجتمع وتهيَّأ للمطر، وصار خليقًا له، فمعنى اخلولِقوا: تهيَّئوا استعدادًا لما يُراد منكم، وكونوا خُلقاء به، جديرين بفعله، لا كمن ضيَّع أركان وأسباب فروسيَّته وقوَّته؛ فلم يجدها عند الحاجة.
وقوله: "واقطعوا الركب" إنما أمرهم بذلك لئلَّا يعتادوا الرُّكوب دائمًا بالرِّكاب، فأحبَّ أن يعوِّدهم الركوب بلا رُكُبٍ، وأن يَنْزُوا على الخيل نَزْوًا.
وقوله: "ارتموا الأغراض": أمَرَهم بأن يكون قصدهم في الرمي الإصابة، لا البُعْد، وهذا هو المقصود من الرمي، ولهذا إنما تكون المناضلة على الإصابة لا على البُعْد، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
الفروسية المحمدية - ط عطاءات العلم (1/ 42 - 47)