العلم حياة ونور، والجهل موتٌ وظُلمَة

 

العلم حياة ونور، والجهل موتٌ وظُلمَة، والشرُّ كلُّه سببه عدمُ الحياة والنور، والخيرُ كلُّه سببه النورُ والحياة؛ فإنَّ النورَ يكشفُ عن حقائق الأشياء، ويبيِّنُ مراتبها، والحياةُ هي المصحِّحةُ لصفات الكمال، المُوجِبةُ لتسديد الأقوال والأعمال.

وكلُّ ما تصرَّف من الحياة فهو خيرٌ كلُّه؛ كالحياء الذي سببه كمالُ حياة القلب، وتصوُّرُه حقيقةَ القبح ونفرتُه منه، وضدُّه الوقاحةُ والفُحش، وسببه موتُ القلب وعدمُ نفرته من القبيح. وكالحَيَا الذي هو المطرُ الذي به حياةُ كلِّ شيء.

قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]، كان ميتًا بالجهل فأحياه بالعلم، وجعل له من الإيمان نورًا يمشي به في الناس.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 28 - 29].

وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].

وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]؛ فأخبرَ أنه روحٌ تحصلُ به الحياة، ونورٌ تحصلُ به الإضاءة والإشراق؛ فجمع بين الأصلَين: الحياة، والنور.

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].

وقال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].

وقال تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11].

وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35]؛ فضربَ سبحانه مثلًا لنوره الذي قَذَفَه في قلب المؤمن، كما قال أبيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه: «مثلُ نوره في قلب عبده المؤمن»، وهو نورُ القرآن والإيمان الذي أعطاه إياه، كما قال في آخر الآية: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} يعني: نورَ الإيمان على نور القرآن، كما قال بعضُ السلف: «يكادُ المؤمنُ ينطقُ بالحكمة وإن لم يسمع فيها بالأثر، فإذا سمعَ فيها بالأثر كان نورًا على نور».

وقد جمعَ اللهُ سبحانه بين ذكر هذين النُّورَين ــ وهما: الكتابُ، والإيمان ــ في غير موضعٍ من كتابه، كقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52].

وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، ففضلُ الله: الإيمان، ورحمتُه: القرآن.

وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].

وقد تقدَّمت هذه الآيات.

وقال في آية النور: {نُورٌ عَلَى نُورٍ}، وهو نورُ القرآن على نور الإيمان.

وفي حديث النوَّاس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله ضرب مثلًا، صراطًا مستقيمًا، وعلى كَنَفَي الصِّراط سُوران لهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب سُتور، وداعٍ يدعو على الصِّراط، وداعٍ يدعو فوقه، {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، والأبوابُ التي على كَنَفَي الصِّراط حدودُ الله، فلا يقعُ أحدٌ في حدود الله حتى يكشفَ السِّتر، والذي يدعو من فوقه واعظُ ربِّه».

رواه الترمذيُّ ــ وهذا لفظُه ــ، والإمامُ أحمد ولفظُه: « … والدَّاعي على رأس الصِّراط كتابُ الله، والداعي فوق الصِّراط واعظُ الله في قلب كلِّ مؤمن».

فذكرَ الأصلين؛ وهما: داعي القرآن، وداعي الإيمان.

وقال حذيفة: «حدثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأمانة نزلت في جَذْرِ قلوب الرِّجال، ثمَّ نزل القرآن، فعَلِمُوا من الإيمان، ثمَّ عَلِمُوا من القرآن».

وفي «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثلُ المؤمن الذي يقرأ القرآنَ كمثل الأُترُجَّة، طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيِّب، ومثلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآنَ كمثل التمرة، طعمُها طيِّب ولا ريحَ لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحُها طيِّبٌ وطعمُها مُرٌّ، ومثلُ المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمُها مرٌّ ولا ريحَ لها».

فجعل الناسَ أربعةَ أقسام:

الأول: أهلُ الإيمان والقرآن؛ وهم خيارُ الناس.

والثاني: أهلُ الإيمان الذين لا يقرؤونَ القرآن؛ وهم دونهم.

فهؤلاء هم السعداء.

والأشقياء قسمان:

أحدهما: من أوتي قرآنًا بلا إيمان، فهو منافق.

والثاني: من لا أوتي قرآنًا ولا إيمانًا.

والمقصود: أنَّ القرآنَ والإيمانَ هما نورٌ يجعلُه الله في قلب من يشاءُ من عباده، وأنهما أصلُ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وعلمُهما أجلُّ العلوم وأفضلُها، بل لا علمَ في الحقيقة ينفعُ صاحبه إلا علمُهما، والله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم.


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 145 - 149 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله