الأدلة على أن الجنّ مكلفون بشرائع الأنبياء

وأمَّا أحكامهم في الدنيا فاختلف النَّاس: هل هم مكلَّفون بالأمر والنَّهي، أم مضطرُّون إلى أفعالهم؟ على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعري في كتاب "المقالات" له فقال: واختلف النَّاس في الجنّ، هل هم مكلَّفون، أم مضطرّون؟ فقال قائلون من المعتزلة وغيرهم: هم مأمورون منهِيُّون، وقد أمروا ونُهوا، وهم مختارون. وزعم زاعمون أنَّهم مضطرُّون.

قلت: الصواب الذي عليه جمهور أهل الإسلام أنَّهم مأمورون منهيُّون مكلَّفون بالشريعة الإسلامية، وأدلَّة القرآن والسنَّة على ذلك أكثر من أن تحصر، فإضافة هذا القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى القول بمعاد الأبدان ونحو ذلك ممَّا هو من أقوال سائر أهل الإسلام.

وقال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) [الأحقاف :18] فأخبر أنَّ منهم من حقَّ عليه القول، أي: وجب عليه العذاب، وأنَّه خاسر، ولا يكون ذلك إلا في أهل التكليف المستوجبين للعقاب بأعمالهم. ثمَّ قال بعد ذلك (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأحقاف : 19] أي: في الخير والشرّ يُوفَّونها ولا يُظلمون شيئًا من أعمالهم. وهذا ظاهر جدًّا في ثوابهم وعقابهم، وأنَّ مسيئهم كما يستحقّ العذاب بإساءته، فمحسنهم يستحقّ الدرجات بإحسانه، فلكلٍّ درجاتٌ ممَّا عملوا. فدلّ ذلك لا محالة أنَّهم كانوا مأمورين بالشرائع، متعبِّدين بها في الدنيا، ولذلك استحقُّوا الدرجات بأعمالهم في الآخرة في الخير والشرّ.

وقال تعالى: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) [فصلت: 25].

ومعنى الآية: أنَّ اللَّه قيَّض للمشركين -أي: سبَّب لهم- قرناءَ من الشياطين يزيّنون لهم ما بين أيديهم من اللذات في الدنيا، وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب.

وقيل عكس هذا، وأنَّ ما بين أيديهم هو التكذيب بالآخرة، وما خلفهم هو رغبتهم في الدنيا وحرصهم عليها. وقال الحسن: ما بين أيديهم هو حبّ ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده.

وفي الآية قولٌ رابع، وهو أنَّ التزيين كلّه راجع إلى أعمالهم، فزيَّنوا لهم ما بين أيديهم: أعمالَهم التي عملوها، وما خلفهم: الأعمال التي هم عازمون عليها ولمَّا يعملوها بعد، وكأنَّ لفظ التزيين بهذا القول أليق.

ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أي: زيّنوا لهم التكذيب بالآخرة. ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر، فإنَّهم زيّنوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها.

ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتَّى لم يذكر البغوي غيره. وحكاه عن الزجّاج فقال: وقال الزجاج: سبَّبنا لهم قرناءَ نظراء من الشياطين حتَّى أضلّوهم، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتَّى آثروه على الآخرة وما خلفهم من أمر الآخرة، فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث.

والمقصود أنَّ قوله تعالى: (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) [فصلت: 25] أي: وجب عليهم العذاب مع أمم قد مضت من قبلهم من الجنّ والإنس. ففي هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلّق الأمر والنهي بهم، ولذلك تعلّق بهم الثواب والعقاب.

وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) [الأنعام: 128].

وهذا صريح في تكليفهم، فإنَّ هذا القول يقال للجنّ في القيامة، فيذكر الإنس استمتاعَ بعضهم ببعض في الدنيا، وذلك الاستمتاع هو ما بين الجنّ والإنس من طاعتهم إيَّاهم في معصية اللَّه، وعبادتهم لهم دون اللَّه، ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم. فإنَّهم كانوا يستوحونهم، ويعوذون بهم، ويذبحون لهم وبأسمائهم، ويوالونهم من دون اللَّه، كما هو شأن أكثر المشركين من أولياءِ الشيطان. فهذا استمتاع بعضهم ببعض.

ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة -وقد جمع العابدين والمعبودين -: (أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ: 40 - 41] فهؤلاء عُبَّاد الجنّ وأولياء الشيطان.

وأكثرهم يعلم ذلك ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده. وكثير منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان ولا يشعر. وقد أشار زيد بن عمرو ابن نفيل في شعره إلى هذا الشرك بالجنّ فقال:

حنانَيك إنَّ الجنّ كانت رجاءَهم … وأنتَ إلهي ربَّنا ورجائيا

ولهذا يقولون في القيامة: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) [الأنعام: 128] قال اللَّه تعالى: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) [الأنعام: 128] فهذا خطاب للصنفين، وهو صريح في اشتراكهم في التكليف، كما هو صريح في اشتراكهم في العذاب. وهذا كثير في القرآن.

وممَّا يدلّ على تكليفهم أيضًا قوله تعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) [الأنعام: 130]. فلمَّا اعترفوا بأنهم كانوا كافرين، وشهدوا على أنفسهم بالكفر، دلَّ ذلك على تكليفهم وتوجّه الخطاب إليهم.

وقال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) [الأحقاف: 29 - 32].

فهذا يدلّ على تكليفهم من وجوه متعددة:

أحدها: أنَّ اللَّه سبحانه صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن، ليؤمنوا به، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه.

الثاني: أنَّهم ولَّوا إلى قومهم منذرين. والإنذار هو الإعلام بالمخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنَّهم منذرون لهم بالنَّار إن عصوا الرسول.

الثالث: أنَّهم أخبروا أنَّهم سمعوا القرآن، وعقلوه وفهموه، وأنَّه يهدي إلى الحقِّ. وهذا القول منهم يدل على أنَّهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزّل عليه، وأنَّ القرآن مصدّق له، وأنَّه هادٍ إلى صراط مستقيم. وهذا يدل على تمكّنهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه. والتكليف إنَّما يستلزم العلم والقدرة.

الرابع: أنَّهم قالوا لقومهم: (يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ).

وهذا صريح في أنَّهم مكلَّفون مأمورون بإجابة الرسول، وهي تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر.

الخامس: أنَّهم قالوا: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ). والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب، وهو مخالفة الأمر.

السادس: أنَّهم قالوا: (مِنْ ذُنُوبِكُمْ). والذنب: مخالفة الأمر.

السابع: أنَّهم قالوا: (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ). وهذا يدلّ على أنَّ من لم يستجب منهم لداعي اللَّه لم يُجِرْه من العذاب الأليم. وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم.

الثامن: أنَّهم قالوا: (وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ)، وهذا تهديد شديد لمن تخلَّف عن إجابة داعي اللَّه منهم. وقد استدلّ بهذا أنَّهم كانوا متعبدين بشريعة موسى، كما هم متعبَّدون بشريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهذا ممكن، والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ) الآية [الأنعام: 130] يدلّ على أنَّ الجنّ كانوا متعبّدين بشرائع الرسل قبل محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، والآيات المتقدِّمة تدلّ على ذلك أيضًا. وعلى هذا فيكون اختصاص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبعثة إلى الثقلين هو اختصاصه بالبعثة إلى جميعهم لا إلى بعضهم، ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة.

وأيضًا فقد قال تعالى عن نبيّه سليمان: (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) [سبأ: 12]. وهذا محض التكليف.

وقد تقدَّم قوله تعالى حكاية عنهم: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [الجن: 14 - 15].

وقد صحَّ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ عليهم القرآن، وأنَّهم سألوه الزاد لهم ولدوابّهم، فجعل لهم كلَّ عظم ذُكِرَ اسمُ اللَّه عليه، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابّهم. ونهانا عن الاستنجاء بهما.

ولو لم يكن في هذا إلا قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء: 15] -وقد أخبر أنَّه يعذّب كفرةَ الجنّ- لكفى به حجةً على أنَّهم مكلَّفون باتباع الرسل.

وممَّا يدلّ على أنَّهم مأمورون منهيُّون بشريعة الإسلام ما تضمّنته سورة الرحمن. فإنَّه سبحانه ذكر خلق النوعين في قوله تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ). ثمَّ خاطب النوعين بالخطاب المتضمّن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم في وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ)، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنَّه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم. ثمَّ ذكر عقاب الصنفين وثوابهم. وهذا كلّه صريح في أنَّهم هم المكلّفون المأمورون المنهيّون المثابون المعاقبون.

وفي الترمذي من حديث محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد اللَّه قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: "لقد قرأتها على الجنّ ليلة الجنّ فكانوا أحسن مردودًا منكم، كنتُ كلَّما أتيتُ على قوله (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) قالوا: لا شيء من نعمك ربَّنا نكذّب، فلك الحمد". وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمواقع الخطاب، وعلمهم أنَّهم مقصودون به.

وقوله في هذه السورة: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) وعيد للصنفين المكلّفين بالشرائع. قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها، ومجيء الآخرة والجزاء فيها، واللَّه تعالى لا يشغله شيءٌ عن شيء. والفراغ في اللغة يكون على وجهين: فراغ من الشغل، وفراغ بمعنى القصد. وهو في هذا الموضع بالمعنى الثاني، وهو قصده لمجازاتهم بأعمالهم يوم الجزاء.

وقوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍفيها قولان:

أحدهما: إن استطعتم أن تنفذوا ما في السماوات والأرض علمًا -أي: أن تعلموا ما فيهما- فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان، أي: ببينة من اللَّه. وعلى هذا فالنفوذ ههنا نفوذ علم الثقلين في السماوات والأرض.

والثاني: إن استطعتم أن تخرجوا عن قهر اللَّه ومحلّ سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السماوات والأرض وخروجكم عن محل ملك اللَّه وسلطانه، فافعلوا. ومعلوم أنَّ هذا من الممتنع عليكم، فإنَّكم تحت سلطاني وفي محلّ ملكي وقدرتي أين كنتم.

وقال الضحاك: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا، فإنَّه مدرككم.

وهذه الأقوال على تقدير أن يكون الخطاب لهم بهذا القول في الدنيا.

وفي الآية تقدير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض، وأحاطَ سُرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهربًا ولا منفذًا، كما قال تعالى: (وَيَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) [غافر: 32 - 33]. قال مجاهد: فارّين غير معجزين. وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار نَدّوا هُرَّابًا، فلا يأتون قطرًا من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفًا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه فذلك قوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) [الحاقة: 17]، وقوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن: 33].

وهذا القول أظهر، واللَّه أعلم. فإذا نَدّ الخلائق وولَّوا مدبرين يقال لهم: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي: إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض، فتعجزوا ربّكم حتّى لا يقدرَ على عذابكم، فافعلوا.

وكأنّ ما قبل هذه الآية وما بعدها يدلّ على هذا القول، فإنّ قبلها (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ) وهذا في الآخرة. وما بعدها (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)، وهذا في الآخرة.

وأيضًا فإنَّ هذا خطاب لجميع الإنس والجنّ، فإنَّه أتى فيه بصيغة العموم، وهي قوله: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). فلا بدَّ أن يشترك الكلّ في سماع هذا الخطاب ومضمونه. وهذا إنَّما يكون إذا جمعهم اللَّه في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر.

وقال تعالى: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ) ولم يقل: إن استطعتما، لإرادة الجماعة، كما قال في آية أخرى: (يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ) [الأنعام: 130].

وقال: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا) ولم يقل: "عليكم" على إرادة الصنفين. أي: لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معًا. وهذا وإن كان مرادًا بقوله: (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ)، فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن، أي: من استطاع منكم. وحَسَّن الخطابَ بالتثنية في قوله: (عَلَيْكُمَا) أمرٌ آخر، وهو موافقة رؤوس الآي، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما. واللَّه أعلم. قال ابن عباس: "الشواظ": اللهب الذي لا دخان فيه. و"النحاس": الدخان الذي لا لهب فيه.

وقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، فأضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنَّهما سواء في التكليف. واختلف في هذا السؤال المنفي، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف، لا يُسألون حينئذٍ. ويُسألون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى اللَّه أن يحاسبهم ويُريحهم من مقامهم ذلك. وقيل: المنفي سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة. أي: قد علم اللَّه ذنوبهم، فلا يسألهم عنها سؤالَ من يريد علمها، وإنَّما يحاسبهم عليها.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (2/ 912 - 924)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله