وقال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الأحزاب: 6] وهذا دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، وهذه الأولوية تتضمن أمورًا:
منها: أن يكون أحبَّ إلى العبد من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ونفس العبد أحب إليه من غيره، ومع هذا فيجب أن يكونَ الرسول أولى به منها، وأحبَّ إليه منها؛ فبذلك يحصل له اسم الإيمان.
ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمالُ الانقياد والطاعة والرضى والتسليم وسائر لوازم المحبة، من الرضى بحكمه، والتسليم لأمره، وإيثاره على كل من سواه.
ومنها: أن لا يكون للعبد حُكْمٌ على نفسه أصلًا، بل الحكمُ على نفسه للرسول، يحكمُ عليها أعظمَ من حُكْمِ السيد على عبده، والوالد على ولده؛ فليس له في نفسه تصرف قط إلا ما تصرف فيه الرسول الذي هو أولى به منها.
فيا عجبًا كيف تَحصُلُ هذه الأولوية لعبد قد عَزَلَ ما جاء به الرسول عن منصب التحكيم، ورَضِيَ بحكم غيره، واطمأن إليه أعظمَ من طمأنينته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وزعم أن الهدى لا يُتَلَقَّى من مشكاته، وإنما يتلقى من دلالات العقول، وأنَّ ما جاء به لا يفيد اليقين، إلى غير ذلك من الأقوال التي تتضمن الإعراضَ عنه وعما جاء به، والحوالةَ في العلم النافع على غيره، وذلك هو الضلال المبين.
ولا سبيلَ إلى ثبوت هذه الأولوية إلّا بعَزْلِ كل ما سواه، وتوليتِه في كل شيء، وعَرْضِ ما قاله كل أحد سواه على ما جاء به؛ فإن شهد له بالصحة قَبِلَه، وإن شهد له بالبطلان ردَّه، وإن لم تتبينْ شهادتُه له بصحةٍ ولا بطلانٍ جَعَلَه بمنزلة أحاديث أهل الكتاب، وَوَقَفَه حتى يَتَبَيَّن أي الأمرين أولى به؟
فمن سلكَ هذه الطريقةَ استقامَ له سَفَرُ الهجرة، واستقام له علمُه وعملُه، وأقبلتْ وجوهُ الحقِّ إليه من كلِّ جهة.
ومن العجب أن يَدّعيَ حصولَ هذه الأولوية والمحبة التامة مَن كان سعيه واجتهاده ونَصَبه في الاشتغال بأقوال غيره وتقريرها، والغضب والحمية لها، والرضى بها والتحاكم إليها، وعرض ما قال الرسول عليها؛ فإن وافقها قَبِلَه، وإن خالفها التمسَ وجوهَ الحيل، وبالغَ في رَدِّه لَيًّا وإعراضًا؛ كما قال تعالى: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة النساء: 135].
الرسالة التبوكية زاد المهاجر إلى ربه - ط عطاءات العلم (1/ 31 - 33)