معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعوذُ بك منكَ" وقوله: "لا مَلْجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك"

وأما الفرار منه إليه؛ فهو متضمنٌ لتوحيدِ الربوبية وإثباتِ القَدَر، وأن كلَّ ما في الكون من المكروه والمحذور الذي يفرّ منه العبد، فإنما أوجبتْه مشيئةُ الله وحدَه؛ فإنه ما شاء اللهُ كان ووجبَ وجودُه بمشيئته، وما لم يَشَأْ لم يكن، وامتنع وجوده لعدم مشيئته، فإذا فرَّ العبدُ إلى الله فإنما يَفِرُّ من شيء إلى شيء وُجِدَ بمشيئة الله وقَدَره؛ فهو في الحقيقة فارٌّ من الله إليه.

ومن تصوَّرَ هذا حقَّ تَصَوُّرِه فَهِمَ‌‌ معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعوذُ بك منكَ" وقوله: "لا مَلْجَأَ ولا منجَى منك إلا إليك". فإنه ليس في الوجود شيءٌ يُفرُّ منه ويُستَعاذ منه ويُلْجَأ منه إلا وهو من الله خلقًا وإبداعًا.

فالفارُّ والمستعيذ فارٌّ مما أوجبه قَدرُ الله ومشيئتُه وخَلْقُه، إلى ما تقتضيه رحمته وبرُّه ولُطْفُه وإحسانه؛ ففي الحقيقة هو هارب من الله إليه، ومستعيذ بالله منه.

وتصوُّر هذين الأمرين يُوجِب للعبد انقطاعَ عَلَقِ قَلْبِه من غير الله بالكلِّية خوفا ورجاء ومحبة؛ فإنه إذا عَلِمَ أنَ الذي يفرُّ منه ويستعيذ منه إنما هو بمشيئة الله وقدرته وخَلْقه، لمْ يَبْقَ في قلبه خوف من غير خالقه ومُوجده؛ فتضمَّنَ ذلك إفرادَ الله وحدَه بالخوف والحُب والرجاء، ولوَ كان ذلك فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجبًا لخوفه منه، مثل من يفرُّ من مخلوق آخرَ أقدرَ منه، فإنه في حال فراره من الأول إلى الآخر خائفا منه حَذِرٌ أن لا يكون الثاني يعِيذه منه، بخلاف ما إذا كان الذي يفرُّ إليه هو الذي قضى وقدر وشاء ما يفرُّ منه؛ فإنه لا يبقى في القلب التفات إلى غيره بوجه.

فتفطَّنْ لهذا السرِّ العجيب في قوله: "أعوذ بك منك"، و"لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك"؛ فإن الناس قد ذكروا في هذا أقوالا، وقلَّ منهم من تَعرض لهذه النكتة التي هي لُبُّ الكلامِ ومقصوده، وبالله التوفيق.

فتأمّلْ كيف عاد الأمن كلُّه إلى الفرار من الله إليه؛ وهو معنى الهجرة إلى الله تعالى. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه".

ولهذا يَقْرِنُ سبحانَه بين الإيمان والهجرة في القرآن في غير موضع؛ لتلازمهما واقتضاءِ أحدِهما للآخر.


الرسالة التبوكية (زاد المهاجر إلى ربه) (1/ 17 - 19)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله