قال ابن المنذر: اختلفوا في وجوب العقيقة:
فقالت طائفة واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وأمره على الفرض، روينا عن الحسن البصري أنه قال في رجل لم يعق عنه قال: يعق عن نفسه. وكان لا يرى على الجارية عقيقة.
قال: وروي عن بريدة: أن الناس يعرضون على العقيقة يوم القيامة كما يعرضون على الصلوات الخمس.
قال اسحاق بن راهويه حدثنا يعلى بن عبيد قال حدثنا صالح بن حبان عن ابن بريدة عن أبيه أن الناس يعرضون يوم القيامة على العقيقة كما يعرضون على الصلوات الخمس، فقلت لابن بريدة: وما العقيقة؟ قال: المولود يولد في الإسلام ينبغي أن يعق عنه.
وقال أبو الزناد: العقيقة من أمر المسلمين الذين كانوا يكرهون تركه.
قال وروينا عن الحسن البصري أنه قال: العقيقة عن الغلام واجبة يوم سابعه.
وقال أبو عمر: وأما اختلاف العلماء في وجوبها:
فذهب أهل الظاهر إلى أن العقيقة واجبة فرضا منهم داود وغيره. قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر وعمل بها، قال: "الغلام مرتهن بعقيقته" "ومع الغلام عقيقته" وقال: "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" ونحو هذا من الأحاديث، وكان بريدة الأسلمي يوجبها ويشبهها بالصلاة، وكان الحسن البصري يذهب إلى أنها واجبة عن الغلام يوم سابعه؛ فإن لم يعق عنه عق عن نفسه، وقال الليث بن سعد: يعق عن المولود أيام سابعه في أيها شاؤوا؛ فإن لم يتهيأ لهم العقيقة في سابعه فلا بأس أن يعق عنه بعد ذلك وليس بواجب أن يعق عنه بعد سبعة أيام، فكان الليث بن سعد يذهب إلى أنها واجبة في السبعة الأيام، وكان مالك يقول هي سنة واجبة يجب العمل بها، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبي ثور والطبري هذا كلام أبي عمر.
قلت: والسنة والواجبة عند أصحاب مالك ما تأكد استحبابه وكُره تركه؛ فيسمونه واجبا وجوب السنن، ولهذا قالوا غسل الجمعة سنة واجبة، والأضحية سنة واجبة، والعقيقة سنة واجبة.
وقد حكى أصحاب أحمد عنه في وجوبها روايتين وليس عنه نص صريح في الوجوب ونحن نذكر نصوصه:
قال الخلال في الجامع ذكر استحباب العقيقة وأنها غير غير واجبة أخبرنا سليمان بن الأشعث قال: سمعت أبا عبد الله سئل عن العقيقة ما هي؟ قال: الذبيحة. وأنكر قول الذي يقول هي حلق الرأس.
أخبرني محمد بن الحسين أن الفضل حدثهم قال سألت أبا عبد الله عن العقيقة واجبة هي؟ قال: لا، ولكن من أحب أن ينسك فلينسك.
قال وسألت أبا عبد الله عن العقيقة أتوجبها؟ قال: لا، ثم ذكر عن أحمد بن القاسم أن أبا عبد الله قيل له في العقيقة واجبة هي؟ قال أما واجبة فلا أدري، ولا أقول واجبة ثم قال: أشد شيء فيه أن الرجل مرتهن بعقيقته.
وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله العقيقة واجبة؟ قال: لا، وأشد شيء روي فيها حديث الغلام: "مرتهن بعقيقته" هو أشدها.
وقال حنبل قال أبو عبد الله: لا أحب لمن أمكنه وقدر أن لا يعق عن ولده ولا يدعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام مرتهن بعقيقته" فهو أشد ما روي في العقيقة.
وقال الحارث: سألت أبا عبد الله عن العقيقة واجبة هي عن الغني والفقير إذا ولد له أن يعق عنه؟ قال: أبو عبد الله قال: الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقته حتى يذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه" هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأحب أن تحيى هذه السنة أرجو أن يخلف الله عليه.
وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت أبا عبد الله عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه "الغلام مرتهن بعقيقته" قال: نعم سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعق عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة؛ فإذا لم يعق عنه فهو محتبس بعقيقته حتى يعق عنه.
وقال جعفر بن محمد: قيل لأبي عبد الله في العقيقة فإن لم تكن عنده؟ قال: ليس عليه شيء. وقال الحارث: قيل لأبي عبد الله في العقيقة فإن لم يكن عنده يعني ما يعق؟ قال إن استقرض رجوت أن يخلف الله عليه، أحيا سنّة.
وقال صالح: قلت لأبي يولد للرجل وليس عنده ما يعق أحب إليك أن يستقرض ويَعُقَّ عنه أم يؤخر ذلك حتى يوسر؟ فقال: أشد ما سمعت في العقيقة حديث الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل غلام رهينة بعقيقته" وإني لأرجو إن استقرض أن يعجل الله له الخلف؛ لأنه أحيا سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به. فهذه نصوصه كما ترى ولكن أصحابه فرّعوا على القول بالوجوب ثلاثة فروع:
أحدها: هل هي واجبة على الصبي في ماله أو على أبيه؟
الثاني: هل تجب الشاة على الذكر أو الشاتان؟
الثالث: إذا لم يعق عنه أبوه هل تسقط أو يجب أن يعق عن نفسه إذا بلغ؟
فأما الفرع الأول فحكموا فيه وجهين:
أحدهما: يجب على الأب، وهو المنصوص عن أحمد. قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن الرجل يخبره والده أنه لم يعق عنه هل يعق عن نفسه؟ قال: ذلك على الأب.
والثاني: في مال الصبي. وحجة من أوجبها على الأب أنه هو المأمور بها كما تقدم، واحتج من أوجبها على الصبي بقوله: "الغلام مرتهن بعقيقته" وهذا الحديث يحتج به الطائفتان؛ فإن أوله الإخبار عن ارتهان الغلام بالعقيقة، وآخره الأمر بأن يراق عنه الدم. قال الموجبون: ويدل على الوجوب قوله: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة" وهذا يدل على الوجوب؛ لأن المعنى: يجزىء عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان.
واحتجوا بحديث البخاري عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى". قالوا: وهذا يدل على الوجوب من وجهين: أحدهما: قوله: "مع الغلام عقيقته" وهذا ليس إخبارا عن الواقع؛ بل عن الواجب ثم أمرهم أن يخرجوا عنه هذا الذي معه فقال: "أهريقوا عنه دما" قالوا: ويدل عليه أيضا حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعقّ. قالوا وروى الترمذي حدثنا يحيى ابن خلف حدثنا بشر بن المفضل حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك أنهم دخلوا على حفصة بنت عبد الرحمن فسألوها عن العقيقة فأخبرتهم أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد الله ابن عثمان بن خثيم عن يوسف بن ماهك عن حفصة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة.
قال أبو بكر حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب حدثنا عبد الله بن وهب قال حدثني عمرو بن الحارث عن أيوب بن موسى أنه حدثه أن يزيد بن عبد المزني حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم". قالوا: وهذا خبر بمعنى الأمر.
قال أبو بكر وحدثنا ابن فضيل عن يحيى بن سعيد عن محمد بن ابراهيم قال: كان يؤمر بالعقيقة ولو بعصفور.
قال القائلون بالاستحباب: لو كانت واجبة لكان وجوبها معلوما من الدين؛ لأن ذلك مما تدعو الحاجة إليه وتعمّ به البلوى؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين وجوبها للأمة بيانا عاما كافيا تقوم به الحجة وينقطع معه العذر. قالوا: وقد علقها بمحبة فاعلها فقال: "من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل" قالوا: وفعله صلى الله عليه وسلم لها لا يدل على الوجوب، وإنما يدل على الاستحباب.
قالوا: وقد روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: "لا يحب الله العقوق" كأنه كره الاسم وقال: "من ولد له ولد وأحب أن ينسك عنه فليفعل عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة" وهذا مرسل وقد رواه مرة عن عمرو عن أبيه قال أراه عن جده وروى مالك عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق" وكأنه إنما كره الاسم وقال: "من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل". قال البيهقي: وإذا انضم إلى الأول قَوِيَا.
قلت: وحديث عمرو بن شعيب قد جوّده عبد الرزاق فقال أخبرنا داود بن قيس قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه عن جده قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فذكر الحديث.
تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 54 - 62)