مشاهد للعبد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه

وهاهنا للعبد عشرة مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه.

أحدها: المشهد الذي ذكره الشّيخ رحمه الله، وهو‌‌ مشهد القَدَر، وأنّ ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره، يراه كالتّأذِّي بالحرِّ والبرد، والمرضِ والألم، وهبوبِ الرِّياح، وانقطاعِ الأمطار، فإنّ الكلّ أوجبتْه مشيئة الله، فما شاء الله كان ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده. وإذا شهد هذا استراح، وعلِمَ أنّه كائنٌ لا مَحالةَ، فما للجَزَع منه وجهٌ، وهو كالجزع من الحرِّ والبرد والمرض والموت.

المشهد الثّاني:‌‌ مشهد الصّبر، فيشهده ويشهد وجوبَه، وحسنَ عاقبته، وجزاء أهله، وما يترتَّب عليه من الغبطة والسُّرورِ وتخلُّصِه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحدٌ لنفسه قطُّ إلّا أعقبَه ذلك ندامةً، وعلمَ أنّه إن لم يصبر اختيارًا على هذا ــ وهو محمودٌ ــ صبر اضطرارًا على أكثر منه وهو مذمومٌ.

المشهد الثّالث: مشهد العفو والصّفح والحِلم، فإنّه متى شهدَ ذلك وفضْلَه وحلاوتَه وعِزّتَه= لم يَعدِلْ عنه إلّا لغَبَشٍ في بصيرته، فإنّه ما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلّا عِزًّا كما صحّ ذلك عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعُلِمَ بالتّجربة والوجود. وما انتقَم أحدٌ لنفسِه إلّا ذلَّ.

هذا، وفي الصّفح والعفو والحلم: من الحلاوة والطُّمأنينة والسّكينة، وشرفِ النّفس وعزِّها ورفعتِها عن تشفِّيها بالانتقام= ما ليس شيءٌ منه في المقابلة والانتقام.

المشهد الرّابع:‌‌ مشهد الرِّضا، وهو فوق مشهد العفو والصّفح، وهذا لا يكون إلّا للنُّفوس المطمئنّة، سيّما إن كان ما أُصيبتْ به سببُه القيام لله، فإذا كان ما أصيبتْ به في الله وفي مرضاته ومحبّته رضيتْ بما نالها في الله. وهذا شأنُ كلِّ محبٍّ صادقٍ يرضى بما يناله في رضا محبوبه من المكاره، ومتى تسخَّط به وتشكّى منه كان ذلك دليلًا على كذبه في محبّته، والواقع شاهدٌ بذلك. والمحبُّ الصّادق كما قال:

من أجلك قد جعلتُ خَدِّي أرضَا … للشّامت والحسود حتّى تَرضَى

ومن لم يرضَ بما يُصيبه في سبيل محبوبه فلينزِلْ عن درجة المحبِّ وليتأخَّر، فليس من ذا الشّأن.

المشهد الخامس:‌‌ مشهد الإحسان، وهو أرفع ممّا قبله. وهو أن يُقابِل إساءةَ المسيء إليه بالإحسان، فيُحسِن إليه كلّما أساء هو إليه، ويُهوِّن هذا عليه علمُه بأنّه قد ربِحَ عليه، وأنّه قد أهدى إليه حسناتِه، ومحاها من صحيفته، فأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره، وتُحسِن إليه بما لا نسبةَ له إلى ما أحسن به إليك.

وهاهنا ينفع استحضارُ مسألة اقتضاءِ الهبة الثّوابَ. وهذا المسكين قد وهبَك حسناتِه، فإن كنتَ من أهل الكرم فأَثِبْه عليها، لتثبتَ الهبة، وتأمنَ رجوعَ الواهب فيها. وفي هذا حكاياتٌ معروفةٌ عن أرباب المكارم وأهلِ العزائم.

ويُهوِّنه عليك أيضًا: علمُك بأنّ الجزاء من جنس العمل. فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوتَ عنه، وأحسنتَ إليه، مع حاجتك وضعفك وفقرِك وذُلِّك. فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغنيُّ بك في إساءتك، يقابلها بما قابلتَ به إساءةَ عبده إليك، فهذا لا بدّمنه. وشاهِدُه في السُّنّة من وجوهٍ كثيرةٍ لمن تأمّلَها.

المشهد السّادس:‌‌ مشهد السّلامة وبِرِّ القلب، وهذا مشهدٌ شريفٌ جدًّا لمن عرفه وذاقَ حلاوته. وهو أن لا يَشْغَل قلْبَه وسِرَّه بما ناله من الأذى، وطلبِ الوصول إلى دَركِ ثأره وشفاءِ نفسه، بل يُفرِّغ قلبه من ذلك، ويرى أنّ سلامته وبِرَّه وخُلوَّه منه أنفعُ له وألذُّ وأطيبُ، وأعونُ على مصالحه. فإنّ القلب إذا اشتغل بشيءٍ فاتَه ما هو أهمُّ عنده وخيرٌ له منه، فيكون بذلك مغبونًا، والرّشيد لا يرضى بذلك، ويراه من تصرُّفات السّفيه. فأين سلامة القلب من امتلائه بالغَبْن والوساوس، وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟

المشهد السّابع:‌‌ مشهد الأمن، فإنّه إذا ترك المقابلة والانتقام أَمِنَ ما هو شرٌّ من ذلك، وإذا انتقم واقَعَه الخوفُ ولا بدَّ، فإنّ ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوَّه ولو كان حقيرًا، فكم من حقيرٍ أردى عدوَّه الكبير. فإذا غفر ولم ينتقم ولم يُقابِل أمِنَ من تولُّد العداوة أو زيادتها. ولا بدّ أنّ عفوه وحلمه وصفْحَه يكسِر عنه شوكةَ عدوِّه، ويَكُفُّ من غَرْ بِه، بعكس الانتقام. والواقع شاهدٌ بذلك أيضًا.

المشهد الثّامن:‌‌ مشهد الجهاد، وهو أن يشهد تولُّدَ أذى النّاس له عن جهاده في سبيل الله، وأمرِهم بالمعروف، ونهيِهم عن المنكر، وإقامةِ دين الله، وإعلاءِ كلماته.

وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسَه ومالَه وعِرْضه بأعظم الثّمن، فإن أراد أن يُسلَّم إليه الثّمنُ فليسلِّم هو السِّلعةَ ليستحقَّ ثمنَها. فلا حقَّ له على من آذاه، ولا شيء له قِبَلَه، إن كان قد رضي بعقد هذا التّبايع، فإنّه قد وجب أجره على الله.

وهذا ثابتٌ بالنّصِّ وإجماع الصّحابة رضي الله عنهم، ولهذا منع النّبيُّ صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكنى مكّة أعزَّها الله، ولم يَرُدَّ على أحدٍ منهم داره ولا مالَه الذي أخذه الكفّار، ولم يُضمِّنهم ديةَ من قتلوه في سبيل الله.

ولمّا عزم الصِّدِّيق رضي الله عنه على تضمين أهل الرِّدّة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم، قال له عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بمشهدٍ من الصّحابة رضي الله عنهم: تلك دماءٌ وأموالٌ ذهبتْ في الله، وأجورُها على الله، ولا ديةَ لشهيدٍ. فأصفقَ الصّحابةُ على قول عمر، ووافقَه عليه الصِّدِّيق.

فمن قام لله حتّى أُوذِي في الله حرّم عليه الانتقام، كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

المشهد التّاسع:‌‌ مشهد النِّعمة، وذلك من وجوهٍ:

أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعلَه مظلومًا يرتقب النّصر، ولم يجعله ظالمًا يرتقب المَقْت والأخذ، فلو خُيِّر العاقل بين الحالتين ــ ولا بدّ من إحداهما ــ لاختار أن يكون مظلومًا.

ومنها: أن يشهد نعمة الله عليه في التّكفير بذلك من خطاياه، فإنّه ما أصاب المؤمنَ من همٍّ ولا غمٍّ ولا أذًى إلّا كفّر الله به من خطاياه، فذلك في الحقيقة دواءٌ يُستخرج به منه أدواء الخطايا والذُّنوب. ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلِّها وأسقامه، ولم يُداوِه في الدُّنيا بدواءٍ يوجب له الشِّفاء= فهو مغبونٌ سفيهٌ. فأذى الخلقِ لك كالدّواء الكريه من الطّبيب المشفق عليك، فلا تنظرْ إلى كراهة الدّواء ومن كان على يديه، وانظر إلى شفقة الطّبيب الذي ركّبه لك، وبعثه إليك على يَدَي مَن نفعك بمضرّته.

ومنها: أن يشهد كون تلك البليّة أهونَ وأسهلَ من غيرها، فإنّه ما محنةٌ إلّا وفوقها ما هي أقوى منها وأمرُّ. فإن لم يكن فوقها محنةٌ في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده، وأنّ كلَّ مصيبةٍ دون مصيبة الدِّين جَلَلٌ، وأنّها في الحقيقة نعمةٌ، والمصيبة الحقيقيّة مصيبة الدِّين.

ومنها: توفية أجرها وثوابها يومَ الفقر والفاقة. وفي بعض الآثار: أنّه يتمنّى أناسٌ يوم القيامة أنّ جلودهم كانت تُقْرَض بالمقاريض، لِما يَرون من ثواب أهل البلاء.

هذا، وإنّ العبد ليشتدُّ فرحُه يوم القيامة بما له قِبَلَ النّاس من الحقوق في المال والنّفس والعرض، فالعاقل يعدُّ هذا ذُخْرًا ليوم الفقر والفاقة، ولا يُبطِله بالانتقام الذي لا يُجدِي عليه شيئًا.

المشهد العاشر:‌‌ مشهد الأسوة، وهو مشهدٌ لطيفٌ شريفٌ جدًّا، فإنّ العاقل اللّبيب يرضى أن يكون له أسوةٌ برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصَّتِه من خلقه، فإنّهم أشدُّ الخَلْق امتحانًا بالنّاس، وأذى النّاسِ إليهم أسرعُ من السَّيل في الحَدُور. ويكفي تدبُّر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم، وشأنِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يُؤذَ به مَن قبله. وقد قال له ورقة بن نوفلٍ: لَتُكذَّبنَّ ولتُخْرَجَنّ ولَتُؤْذَيَنّ. وقال له: ما جاء أحدٌ بمثل ما جئتَ به إلّا عُودِي. وهذا مستمرٌّ في ورثته كما كان في موروثهم صلى الله عليه وسلم.

أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوةٌ بخيار خَلْق الله وخواصِّ عباده: الأمثل فالأمثل؟

ومن أحبَّ معرفة ذلك فليقفْ على مِحَن العلماء، وأذى الجهّال لهم. وقد صنّف في ذلك ابن زَبْر كتابًا سمّاه «مِحَن العلماء».

المشهد الحادي عشر: وهو أجلُّ المشاهد وأرفعها:‌‌ مشهد التوحيد، فإذا امتلأ قلبه بمحبّة الله تعالى، والإخلاصِ له ومعاملته، وإيثارِ مرضاته، والتّقرُّب إليه، وقرّتْ عينه بالله، وابتهجَ قلبه بحبِّه والأنسِ به، واطمأنّ إليه، وسكنَ إليه، واشتاق إلى لقائه، واتّخذه وليًّا دونَ ما سواه، بحيث فوَّض إليه أمورَه كلّها، ورضي به وبأقضيته، وفَنِيَ بحبِّه وخوفه ورجائه وذكره والتّوكُّل عليه عن كلِّ ما سواه= فإنّه لا يبقى في قلبه متّسَعٌ لشهودِ أذى النّاس له البتّةَ، فضلًا عن أن يشتغل قلبه وفكره وسِرُّه بتطلُّب الانتقام والمقابلة، فهذا لا يكون إلّا من قلبٍ ليس فيه ما يُغنِيه عن ذلك ويُعوِّضه منه، فهو قلبٌ جائعٌ غير شَبعانَ، فإذا رأى أيّ طعامٍ رآه هَفَتْ إليه نوازِعُه، وانبعثتْ إليه دواعِيه. وأمّا من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها فإنّه لا يلتفت إلى ما دونها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.


مدارج السالكين (3/ 51 – 59 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله