العلم بأنه صلى الله عليه وسلم مذكور في الكتب المقدسة يعرف من وجوه متعددة:
أحدها: إخبار من قد ثبتت نبوته قطعا بأنه مذكور عندهم في كتبهم، فقد أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه فيجب تصديقه فيه، إذ تكذيبه والحالة هذه ممتنع لذاته، هذا لو لم يعلم ذلك إلا من مجرد خبره، فكيف إذا تطابقت الأدلة على صحة ما أخبر به.
الثاني: أنه جعل الإخبار به من أعظم أدلة صدقه وصفة نبوته، وهذا يستحيل أن يصدر إلا من واثق كل الوثوق بذلك وأنه على يقين جازم به.
الثالث: أن المؤمنين به من الأحبار والرهبان الذي آثروا الحق على الباطل صدّقوه في ذلك وشهدوا له بما قال.
الرابع: أن المكذبين الجاحدين لنبوته لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوته وأنه نبي عظيم الشأن صفته كذا وكذا، ونعته كذا وكذا، وصفة أمته ومخرجه، ومنشؤه، وشأنه، لكنهم جحدوا أنه هو الذي وقعت به البشارة، وأنه نبي آخر غيره، وعلموا هم والمؤمنون به من قومهم أنهم ركبوا متن المكابرة وامتطوا غارب البُهت.
الخامس: أن كثيرا منهم صرح لخاصته وبطانته بأنه هو بعينه، وأنه عازم على عداوته ما بقي كما تقدم.
السادس: أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مذكور في كتبهم هو فرد من أفراد إخباراته بما عندهم في كتبهم من شأن أنبيائهم وقومهم، وما جرى لهم، وقصص الأنبياء المتقدمين وأممهم، وشأن المبدأ والمعاد، وغير ذلك مما أخبرت به الأنبياء، وكل ذلك مما يعلمون صدقه فيه، ومطابقته لما عندهم، وتلك الأخبار أكثر من أن تحصى، ولم يكذبوه يوما واحدا في شيء منها، وكانوا أحرص شيء على أن يظفروا منه بكذبة واحدة أو غلطة أو سهو فينادون بها عليه، ويجدون بها السبيل إلى تنفير الناس عنه، فلم يقل أحد منهم يوما من الدهر، ولم يظفروا بقول أنه أخبر بكذا وكذا في كتبنا وهو كاذب فيه، بل كانوا يصدقونه في ذلك، وهم مصرون على عدم اتّباعه، وهذا من أعظم الأدلة على صدقه فيما أخبر به لو لم يكن يعلم إلا بمجرد خبره.
السابع: أنه أخبر بهذا لأعدائه من المشركين الذين لا كتاب لهم وأخبر به لأعدائه من أهل الكتاب وأخبر به لأتباعه، فلو كان هذا باطلا لا صحة له، لكان ذلك تسليطا للمشركين أن يسألوا أهل الكتاب، فينكرون ذلك، وتسليطا لأهل الكتاب على الإنكار، وتسليطا لأتباعه على الرجوع عنه، والتكذيب له بعد تصديقه، وذلك ينقض الغرض المقصود بإخباره من كل وجه، وهو بمنزلة رجل يخبر بما يشهد بكذبه، ويجعل إخباره دليلا على صدقه ويجعل إخباره تصديقا، وهذا لا يصدر من عاقل ولا مجنون.
فهذه الوجوه يعلم بها صدق ما أخبر به، وإن لم يعلم وجوده من غير جهة إخباره، فكيف وقد علم وجود ما أخبر به.
الثامن: أنه إن قُدِّر أنهم لم يعلموا بشارة الأنبياء به، وإخبارهم بنعته وصفته، لم يلزم أن لا يكونوا ذكروه وأخبروا به وبشروا بنبوته، إذ ليس كل ما قاله الأنبياء المتقدمون وصل إلى المتأخرين وأحاطوا به علما، وهذا مما يعلم بالاضطرار، فكم من قول قد قاله موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ولا عِلْمَ لليهود والنصارى به، فإذا أخبر به من قام الدليل القطعي على صدقه لم يكن جهلهم به موجبا لردّه وتكذيبه.
التاسع: أنه يمكن أن يكون في نسخ غير هذه النسخ التي بأيديهم، فأزيل من بعضها، ونسخت هذه مما أزيل منه.
وقولهم إن نسخ التوراة متفقة في شرق الأرض وغربها كذب ظاهر، فهذه التوراة التي بأيدي النصارى، تخالف التوراة التي بأيدي اليهود، والتي بأيدي السامرة تخالف هذه وهذه، وهذه نسخ الإنجيل يخالف بعضها بعضا، ويناقضه، فدعواهم أن نسخ التوراة والإنجيل متفقة شرقا وغربا من البهت والكذب الذي يروجونه على أشباه الأنعام، حتى أن هذه التوراة التي بأيدي اليهود فيها من الزيادة والتحريف والنقصان مما لا يخفى على الراسخين في العلم، وهم يعلمون قطعا أن ذلك ليس في التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك مثل قولهم حكاية نزول الألواح، وكيف رمى بها موسى عليه الصلاة والسلام، وقصة وفاة موسى.
ونفس الألواح كانت هي التوراة، ووفاة موسى إنما حدثت بعد نزول التوراة بسنين عديدة.
ومنها حكاية موسى أنه نسخ ما في الألواح بخطه، ولا في الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام.
وكيف يكون في الإنجيل الذي أنزل على المسيح قصة صلبه، وما جرى له، وأنه كذا وكذا وصلب يوم كذا وكذا، وصلب ودفن وقام من القبر بعد ثلاث، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى، وغايته أن يكون من كلام الحواريين خلطوه بالإنجيل وسموا الجميع إنجيلا، ولذلك كانت الأناجيل عندهم أربعة يخالف بعضها بعضا.
هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (1/ 306 - 310)