سلسلة الفوائد المنتقاة من كتب ابن القيم: مواعظ ابن القيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

لا يستغني المسلم عن المواعظ كونها سياط القلوب، فتأثيرها في القلوب كتأثير السِّياط في الأَبدان، وهي من سُبل تزكية النفس وصلاح القلب وتعافيه من القسوة والران والغفلة، وقد جمعت بعض المواعظ من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله ومنقوله. وأسأل الله عز وجل أن ينفع بها الجميع.

*نايف بن علي العوفي

 

موعظة بليغة:

والعَجبُ كلُّ العجب مِنْ غفلة مَنْ ‌لحظاتُه ‌معدودةٌ ‌عليه، وكل نَفَسٍ من أنفاسه لا قيمة له، وإذا ذهب لم يرجع إليه، فمَطَايا الليلِ والنَّهار تُسرِعُ به، ولا يتَفَكَّرُ إلى أين يُحْمل، ويسارُ به أعظم من سير البَرِيْدِ، ولا يدري إلى أيِّ الدَّارين يُنقل، فإذا نَزَلَ به الموتُ اشتدَّ قلقُهُ لخراب ذاتِهِ، وذهاب لذَّاتِهِ، لا لِمَا سبقَ من جنَاياتِهِ، وسلَفَ مِنْ تَفْرِيْطِهِ، حيثُ لم يُقَدِّم لحياته، فإن خطرتْ له خطَرةٌ عارضةٌ لِمَا خُلِقَ له، دَفَعَها باعتماده على العفو، وقال: قد أنبأنا اللَّه أنَّه هو الغفور الرحيم، وكأنَّه لم يُنَبَّأ: أنَّ عذابه هو العذابُ الأليم. حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (1/ 8)

 

موعظة بليغة في الاستهانة بالذنوب:

وَفِي الْحِلْيَةِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا تَأْمَنْ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ، قِلَّةُ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَفَرَحُكَ بِالذَّنْبِ إِذَا ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَحُزْنُكَ عَلَى الذَّنْبِ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ، وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ. الداء والدواء (ص: 125 - 126)

 

- وَيْحَكَ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ فَابْتَلَاهُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ؟

 اسْتَغَاثَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يُعِنْهُ، وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ.

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ.

الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: بِقَدْرِ مَا يَصْغَرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ عِنْدَكَ يَصْغَرُ عِنْدَ اللَّهِ. الداء والدواء (ص: 126 - 127)

 

ذبح الموت بين الجنة والنار:

قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يجاء بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرأبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت!

ثم يقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرأبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت!

قال: فيؤمر به فيذبح.

قال: ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت؛ ثم قرأ رسول الله {وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} " متفق عليه.

وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: " يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه". حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (2/ 813 - 814)

 

تدارك نفسك بالتوبة:

اقشعرّت الأَرْض، وأظلمت السَّمَاء، وَظهر الْفساد فِي الْبر وَالْبَحْر من ظلم الفجرة، وَذَهَبت البركات، وقلّت الْخيرَات، وهُزلت الوحوش، وتكدرت الْحَيَاة من فسق الظلمَة، وَبكى ضوء النَّهَار وظلمة اللَّيْل من الْأَعْمَال الخبيثة وَالْأَفْعَال الفظيعة، وشكا الْكِرَام الكاتبون والمعقبات إِلَى رَبهم من كَثْرَة الْفَوَاحِش وَغَلَبَة الْمُنْكَرَات والقبايح، وَهَذَا وَالله مُنْذر بسيل عَذَاب قد انْعَقَد غمامه، ومؤذن بلَيْل بلَاء قد ادلهمّ ظلامه، فاعزلوا عَن طَرِيق هَذَا السَّبِيل بتوبة نصوح مَا دَامَت التَّوْبَة مُمكنَة وبابها مَفْتُوح، وكأنكم بِالْبَابِ وَقد أغلق وبالرهن وَقد غلق وبالجناح وَقد علق (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون). الفوائد (ص: 65 - 66)

 

- يَا بَائِعا نَفسه بهوى مَنْ حُبُّه ضنا، وَوَصله أَذَى، وَحسنه إِلَى فَنًّا؛ لقد بِعْت أنفس الْأَشْيَاء بِثمن بخس؛ كَأَنَّك لم تعرف قدر السّلْعَة، وَبلا خسة الثّمن؛ حَتَّى إِذا قدمت يَوْم التغابن تبيّن لَك أن الْغبن فِي عقد التبايع.

لَا إِلَه إِلَّا الله سلْعَة الله مشتريها وَثمنهَا الجنّة والدلال الرَّسُول ترْضى بِبَيْعِهَا بِجُزْء يسير مِمَّا لَا يُسَاوِي كُله جنَاح بعوضة.

إِذا كَانَ شَيْء لَا يُسَاوِي جَمِيعه *** جنَاح بعوضة عِنْد من صرت عَبده

وَيملك جُزْء مِنْهُ كلك مَا الَّذِي *** يكون على ذَا الْحَال قدرك عِنْده

وبعت بِهِ نفسا قد استامها بِمَا *** لَدَيْهِ من الْحسنى وَقد زَالَ وده

الفوائد (ص: 56)

 

  • لَيْسَ للعابد مستراح إِلَّا تَحت شَجَرَة طُوبَى وَلَا للمحب قَرَار إِلَّا يَوْم الْمَزِيد
  • اشْتغل بِهِ فِي الْحَيَاة يكفك مَا بعد الْمَوْت
  • يَا منفقا بضَاعَة الْعُمر فِي مُخَالفَة حَبِيبه والبعد مِنْهُ لَيْسَ فِي أعدائك أضرّ عَلَيْك مِنْك

     مَا تبلغ الْأَعْدَاء من جَاهِل *** ما يبلغ الْجَاهِل من نَفسه

  • الهمة العليّة من استعد صَاحبهَا للقاء الحبيب وَقدم التقادم بَين يَدي الْمُلْتَقى فَاسْتَبْشَرَ عِنْد الْقدوم (وَقدمُوا لأنفسكم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤمنِينَ)
  • تالله مَا عدا عَلَيْك الْعَدو إِلَّا بعد أَن تولى عَنْك الْوَلِيّ فَلَا تظن أَن الشَّيْطَان غلب وَلَكِن الْحَافِظ أعرض. الفوائد (ص: 96 - 97)

 

- الْوَقْتُ مُنْقَضٍ بِذَاتِهِ، مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِه؛ فَمَنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَ فَوَاتُهُ، وَاشْتَدَّتْ حَسَرَاتُهُ.

 فَكَيْفَ حَالُهُ إِذَا عَلِمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْفَوْتِ مِقْدَارَ مَا أَضَاعَ. وَطَلَبَ الرُّجْعَى فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِرْجَاعِ وَطَلَبِ تَنَاوُلِ الْفَائِتِ.

وَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْسُ فِي الْيَوْمِ الْجَدِيدِ؟ (وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) وَمُنِعَ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا اقْتَنَاهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَنِيَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ. مدارج السالكين (3/ 429 ط عطاءات العلم)

 

قَالَ شَقِيق بن إِبْرَاهِيم: أغلق بَاب التَّوْفِيق عَن الْخلق من سِتَّة أَشْيَاء:

  • اشتغالهم بِالنعْمَةِ عَن شكرها
  • ورغبتهم فِي الْعلم وتركهم الْعَمَل
  • والمسارعة إِلَى الذَّنب وَتَأْخِير التَّوْبَة
  • والاغترار بِصُحْبَة الصَّالِحين وَترك الِاقْتِدَاء بفعالهم
  • وإدبار الدُّنْيَا عَنْهُم وهم يتبعونها
  • وإقبال الْآخِرَة عَلَيْهِم وهم معرضون عَنْهَا. الفوائد (ص: 258)

 

- ليس للعابدين مُستراح إلا تحت شجرة طوبى، ولا للمُحبين قرار إلا يوم المزيد؛ فمثِّل لقلبك الاستراحة تحت شجرة طُوبى يَهُن عليك النَّصب، واستحضر يوم المزيد يَهُن عليك ما تتحمل من أجله. بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (3/ 1186)

 

- غاب الهدهد عن سليمان ساعة فتوعده؛ فيا من أطال الغيبة عن ربه هل أمنت غضبه؟!! بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (3/ 1207)

 

- وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته:

 أيها الناس، إنكم لم تُخلقوا عَبثاً، ولم تُتركوا سُدى، وإن لكم معاداً يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السموات والأرض. الوابل الصيب (1/ 36)

 

موعظة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز:

وذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب إلى عمر بن عبد العزيز:

أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن، ليست بدار إقامة، إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذل من أعزها، وتُفقر من جمعها؛ هي كالسمّ يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه؛ فكن فيها كالمداوي جراحه، يحتمي قليلا، مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرارة، الخداعة الختَّالة، التى قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وختلت بآمالها، وتشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسي المعاد فشَغل بها لُبَّه، حتى زّلت عنها قدمه، فعظمت عليه ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه، وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته، فعاش بغُصته، وذهب بكمده، ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير  زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسرَّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، وُصِل الرخاء منها بالبلاء، وجُعل البقاء فيها إلى فناء، سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر؟ فما لها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا تُنقِصُه عند الله جناح بعوضة، فأَبَى أن يقبلها، كره أن يحب ما أبغض خالقُه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختيارا، وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسي ما صنع الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم حين شد الحجر على بطنه. إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 58 - 59 ط عطاءات العلم)

 

- لقد حرّك الداعي إلى الله وإلى دار السلام: النفوس الأبية، والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حياً، فهزّه السماعُ إلى منازل الأبرار، وحدا به في طريق سيره، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار. زاد_المعاد في هدي خير العباد (٣/ ٦٨)

 

امنع الهوى من أن يتمكن:

يدخل عليك لصّ الهوى وأنت في زاوية التعبد فلا يرى منك طردا له فلا يزال بك حتى يخرجك من المسجد. الفوائد (ص: ٧٠)

 

- لو رأيت أهل القبور في وثاق الأسر فلا يستطيعون الحركة إلى نجاة (وَحيلَ بَينَهُم وَبَينَ ما يَشتَهونَ) [سبأ: ٥٤]. بدائع الفوائد (٣/ ٢١٨).

 

ضياع العمر في غير طاعة الله:

يا منفقا بضاعة العمر في مخالفة حبيبه والبُعد منه ليس في أعدائك أشدّ شرا عليك منك

ما يبلغ الأعداء من جاهل *** ما يبلغ الجاهل من نفسه

بدائع الفوائد (٣/ ٢١٨)

 

- يا من لم يصبر عن الهوى صبر يوسف يتعين عليه بكاء يعقوب فإن لم يُطِق فَذُلّ إخوته يوم تصدق علينا. بدائع الفوائد (٣/ ٢٣٨).

 

- انظر ﺇﻟﻰ اﻵﺧﺮﺓ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺭﺃﻱ ﻋﻴﻦ، ﻭﺗﺄﻣﻞ ﺣﻜﻤﺔ اﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻲ اﻟﺪاﺭﻳﻦ، ﺗﻌﻠﻢ ﺣﻴﻨﺌﺬ ﻋﻠﻤﺎ ﻳﻘﻴﻨﺎ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ: ﺃﻥ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﺰﺭﻋﺔ اﻵﺧﺮﺓ ﻭﻋﻨﻮاﻧﻬﺎ ﻭﺃﻧﻤﻮﺫﺟﻬﺎ، ﻭﺃﻥ ﻣﻨﺎﺯﻝ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﻭاﻟﺸﻘﺎﻭﺓ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﻣﻨﺎﺯﻟﻬﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ اﻟﺪاﺭ ﻓﻲ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭاﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻭﺿﺪﻫﻤﺎ، ﻭﺑﺎﻟﻠﻪ اﻟﺘﻮﻓﻴﻖ. الداء والدواء (ص: ١٢٣)

 

لا تنشغل عن الله تعالى بغيره:

من كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته في حال حياته= وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن كان مشغولاً بغيره في حال حياته وصحته= فيعسُر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية من ربه.

ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يُلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأَجل تلك اللحظة التي إن فاتت شقي شقاوة الأبد. فنسأَل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: ٣٠٩).

 

- ما تكاد تهتم بمؤونة الشتاء حتى يقوى البرد، ولا بمؤونه الصيف حتى يقوى الحر، والذرّ يدخر الزاد من الصيف لأيام الشتاء، وهذا الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر فهلا بعثت فراش (وَمَن عَمِلَ صالِحًا فَلِأَنفُسِهِم يَمهَدونَ) [الروم: ٤٤]. بدائع الفوائد (٣/ ٢٢٥)

 

- وهذا عمر بن الخطاب قرأ سورة الطور إلى أن بلغ: (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِن دافِعٍ) [الطور: ٧-٨] فبكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه. الداء والدواء (ص: ٤٠)

 

يا عُمّار الدنيا لا تغفلوا عن القبر:

أكثر أصحاب القبور معذبين، والفائز منهم قليل، فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب، ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، ويحق لها وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها.

تالله لقد وعظت فما تركت لواعظ مقالا، ونادت يا عمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا، وخربتم دارا أنتم مسرعون إليها انتقالا، عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها، وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها، هذه دار الاستباق ومستودع الأعمال وبذر الزرع، وهذه محل للعِبر، رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار. الروح (ص: ٧٩)

 

- قيل لبعضهم -وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه-: ما الذي أصابك؟

فقال: حجاب وقع، وأنشد:

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت *** ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها *** وعند صفو الليالي يحدث الكدر

ليس العجب ممن هلك كيف هلك؟ إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟

تعجبين من سقمي *** صحتي هي العجب

مدارج السالكين (٣/ ١٢٦)

 

موعظة بليغة:

مَا أحد أكْرم من مُفْرد *** فِي قَبره أَعماله تونسه

مُنعما فِي الْقَبْر فِي رَوْضَة *** لَيْسَ كعبدٍ قَبره محبسه

على قدر فضل الْمَرْء يَأْتِي خطوبه *** وَيعرف عِنْد الصَّبْر فِيمَا يُصِيبهُ

وَمن قلّ فِيمَا يتقيه اصطباره *** فقد قل مِمَّا يرتجيه نصِيبه

الفوائد (ص: ٤١)

 

- إطلاق البصر ينقش في القلب صورة المنظور، والقلب كعبة، والمعبود لا يرضى بمزاحمة الأصنام. الفوائد (ص: ٦٨)

 

- سبق العلم بنبوة موسى وإيمان آسية، فسيق تابوته إلى بيتها؛ فجاء طفل منفرد عن أم إلى امرأة خالية عن ولد؛ فلله كم في هذه القصة من عبرة، كم ذبح فرعون في طلب موسى من ولد، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك. الفوائد (ص: ٤٤)

 

يَا مغرورا بالأماني:

يَا مغرورا بالأماني لُعن إِبْلِيس وأُهبط من منزل الْعِزّ بترك سَجْدَة وَاحِدَة أَمر بهَا، وَأخرج آدم من الْجنَّة بلقمة تنَاولهَا، وحُجب الْقَاتِل عَنْهَا بعد أَن رَآهَا عيَانًا بملء كف من دم، وَأمر بقتل الزَّانِي أشنع القتلات بإيلاج قدر الْأُنْمُلَة فِيمَا لَا يحل، وَأمر بإيساع الظّهْر سياطا بِكَلِمَة قذف أَو بقطرة سُكْرٍ، وَأَبَان عضوا من أعضائك بِثَلَاثَة دَرَاهِم فَلَا تأمنه أَن يحبسك فِي النَّار بِمَعْصِيَة وَاحِدَة من مَعَاصيه (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) [الشمس: 15].

دخلت امْرَأَة النَّار فِي هِرّة، وَإِن الرجل ليَتَكَلَّم بِالْكَلِمَةِ لَا يلقِي لَهَا بَالاً يهوي بهَا فِي النَّار أبعد مَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب، وَإِن الرجل ليعْمَل بِطَاعَة الله سِتِّينَ سنة فَإِذا كَانَ عِنْد الْمَوْت جَار فِي الْوَصِيَّة فيختم لَهُ بِسوء عمله فَيدْخل النَّار، الْعُمر بآخره وَالْعَمَل بخاتمته

من أحدث قبل السَّلَام بَطل مَا مضى من صلَاته، وَمن أفطر قبل غرُوب الشَّمْس ذهب صِيَامه ضائعا، وَمن أَسَاءَ فِي آخر عمره لقى ربه فِي ذَلِك الْوَجْه.

لَو قدمت لقْمَة وَجدتهَا وَلَكِن يُؤْذِيك الشّرَه.

كم جَاءَ الثَّوَاب يسْعَى إِلَيْك فَوقف بِالْبَابِ فَردّه بوّاب (سَوف وَلَعَلَّ وَعَسَى).

كَيفَ الْفَلاح بَين إِيمَان نَاقص وأمل زَائِد وَمرض لَا طَبِيب لَهُ وَلَا عَائِد، وَهوى مستيقظ وعقل رَاقِد سَاهِيا فِي غمرته عَمها فِي سكرته سابحا فِي لجّة جَهله، مستوحشا من ربه مستأنسا بخلقه، ذكر النَّاس فاكهته وقوته وَذكر الله حَبسه وَمَوته، لله مِنْهُ جُزْء يسير من ظَاهره وَقَلبه ويقينه لغيره

لَا كَانَ من سواك فِيهِ بَقِيَّة *** يجد السَّبِيل بهَا إِلَيْهِ العذل

الفوائد (ص: 63)

 

- لو أبصرتَ طلائع الصِّدِّيقينَ في أوائلِ الركْب، أو سمعتَ استغاثةَ المُحِبِّينَ في وسط الركْب، أو شاهدتَ سَاقَةَ المستغفرينَ في آخر الركْبِ؛ لعلمتَ أنَّك قد انقطَعتَ تحتَ شجرة أمِّ غَيْلان. بدائع الفوائد (٣/ ١٢٢٢)

 

- والعجب كل العجب من غفلة من تُعدّ لحظاته، وتحصى عليه أنفاسه، ومطايا الليل والنهار تسرع به، ولا يتفكر إلى أين يحمل؟ ولا إلى أي منزل ينقل؟

وكيف تنام العين وهي قريرة *** ولم تدر في أي المحلين تنزل؟

وإذا نزل بأحدهم الموت قلق لخراب ذاته، وذهاب لذاته، لا لما سبق من جناياته، ولا لسوء منقلبه بعد مماته، فإن خطرت على قلب أحدهم خطرة من ذلك اعتمد على العفو والرحمة، كأنه يتيقن أن ذلك نصيبه ولا بد. التبيان في أيمان القرآن (١/ ٦٤١)

 

- ويحك لا تحقر نفسك؛ فالتائب حبيب، والمُنكسر صحيح، إقرارك بالإفلاس عين الغنى، تنكيس رأسك بالندم هو الرفعة، اعترافك بالخطأ نفس الإصابة. بدائع الفوائد (٣/ ١٢٢٠)

 

- فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة عاجلة، ذهبت لذتها وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها وبقيت مضرتها، فذهبت الشهوة وبقيت الشقوة، وزالت المسرّة وبقيت الحسرة، فوارحمتاه لِصَبّ جُمع له بين الحسرتين: حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم! فهنالك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع!. إغاثة اللهفان (٢/ ٨٣٧)

 

من كان يعلمُ أن الموت مدركُه *** والقبرُ مسكنه والبعث مخرجهُ

وأنَّه بين جناتٍ ستُبهِجُهُ *** يومَ القيامةِ أو نار ستنضِجُهُ

فكلُّ شيءٍ سوى التَّقوى به سَمِجٌ *** وما أقام عليه منه أسمجُهُ

ترى الذي اتَّخذ الدُّنيا له وطنًا *** لم يدرِ أن المنايا سوف تزعِجُهُ

بدائع الفوائد (٤/ ١٣٥٢)

 

- لقد أسمع منادي الإيمان لو صادف آذانا واعية، وشَفَت مواعظ القرآن لو وافقت قلوبا من غيها خالية، ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها أيدي الغفلة والجهالة فأغلقت أبواب رشدها، وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم ينفع فيها الكلام، وسكرت بشهوات الغي وشبهات الباطل فلم تصغ بعده إلى الملام، ووُعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسنة والسهام، ولكن ماتت في بحر الجهل والغفلة، وأسر الهوى والشهوة، وما لجرح بميت إيلام. الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص:١٢٧)

 

- وقال الحسن: المؤمن قوّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خفّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات! حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء، فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدا.

إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله. إغاثة اللهفان (١/ ١٣٥)

 

- وكان بعض السلف يقول: تصبّروا فإنما هي أيام قلائل، وإنما أنتم ركبٌ وقوفٌ يوشك أن يُدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت، وإنه قد نُعِيت إليكم أنفسكم، والموت حبسٌ لا بدّ منه، والله بالمرصاد، وإنما تخرج هذه النفوس على آخر سورة الواقعة. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: ٤٧٠)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله