أين مستقر الأرواح ما بين الموت إلى القيامة؟

فإن قيل: فقد ذكرتم أقوال الناس في مستقرِّ الأرواح ومآخذهم، فما هو الراجح من هذه الأقوال حتى نعتقده؟

قيل: الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت: فمنها أرواح في أعلى علِّيين في الملأ الأعلى. وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.

ومنها أرواح في حواصل طيرٍ خُضْرٍ تسرح في الجنَّة حيث شاءت. وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تُحبَس روحه عن دخول الجنة لدَين عليه أو غيره، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتلت في سبيل الله؟ قال: «الجنة». فلما ولَّى قال: «إلا الدَّين، سارَّني به جبريلُ آنفًا».

ومنهم من يكون محبوسًا على باب الجنَّة، كما في الحديث الآخر: «رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنَّة».

ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، كحديث صاحب الشَّملة التي غلَّها ثم استُشهِد، فقال الناس: هنيئًا له الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلّا، والذي نفسي بيده، إنَّ الشملة التي غلَّها لَتشتعل عليه نارًا في قبره».

ومنهم من يكون مقرُّه بباب الجنة، كما في حديث ابن عباس: «الشهداء على بارقِ نهرٍ بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقُهم من الجنة بكرةً وعشية» رواه أحمد. وهذا بخلاف جعفر بن أبي طالب حيث أبدله الله مِن يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.

ومنهم من يكون محبوسًا في الأرض، لم تَعْلُ روحُه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحًا سُفْلِيَّة أرضية؛ فإنَّ الأنفس الأرضية لا تُجامع الأنفسَ السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا. والنفسُ التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربِّها ومحبتَه وذكرَه والأنسَ به والتقرُّب إليه، بل هي أرضية سفلية= لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلّا هناك. كما أنَّ النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفةً على محبةِ الله وذكرِه والتقربِ إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها. فالمرء مع من أحبَّ في البرزخ ويوم القيامة. والله تعالى يزوِّج النفوسَ بعضَها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، كما تقدَّم في الحديث: «ويجعل روحه ــ يعني المؤمن ــ مع النَّسَم الطيِّب». أي: الأرواحِ الطيِّبةِ المشاكلةِ لروحه. فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وإخوانها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك.

ومنها أرواحٌ تكون في تنوُّر الزُّناة والزواني، وأرواحٌ في نهر الدم تَسْبح فيه، وتُلقَم الحجارة.

فليس للأرواح ــ سعيدِها وشقيِّها ــ مستقرٌّ واحد. بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض، وأنت إذا تأملتَ السنن والآثار في هذا الباب، وكان لك بها فضلُ اعتناءٍ، عرفتَ صحة ذلك.

ولا تظنَّ أنَّ بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنَّها كلَّها حقٌّ يصدِّق بعضُها بعضًا، لكن الشأن في فهمهما ومعرفةِ النفس وأحكامها، وأنَّ لها شأنًا غيرَ شأن البدن، وأنَّها مع كونها في الجنَّة فهي في السماء، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركةً وانتقالاً وصعودًا وهبوطًا، وأنَّها تنقسم إلى مرسَلة ومحبوسة، وعلويّة وسفليّة. ولها بعد المفارقة صحّة ومرض، ولذّة ونعيم، وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير. فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهناك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق. وما أشبهَ حالَها في هذا البدن بحال البدن في بطن أمه، وحالَها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار!

فلهذه الأنفس أربع دُورٍ كلُّ دار أعظم من التي قبلها:

الدار الأولى: في بطن الأمِّ، وذلك الحصَر والضِّيق والغمِّ، والظلمات الثلاث.

الدار الثانية: هذه الدار التي نشأتْ فيها وأَلِفَتْها، واكتسبتْ فيها الخيرَ والشرَّ وأسبابَ السعادة والشقاوة.

والدار الثالثة: دار البرزخ. وهي أوسعُ من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الدار الأولى.

الدار الرابعة: دار القرار. وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها.

والله تعالى ينقلها في هذه الدور طَبَقًا بعد طَبَق، حتى يبلِّغها الدار التي لا يصلح لها غيرُها، ولا يليق بها سواها. وهي التي خُلِقتْ لها وهُيِّئت للعمل الموصل لها إليها. ولها في كلِّ دار من هذه الدور حكمٌ وشأن غير شأن الدار الأخرى. فتبارك الله فاطرُها ومنشيها، ومميتُها ومحييها، ومُسعدُها ومُشقيها، الذي فاوَت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علوِّها وأعمالها وقواها وأخلاقها.

فمن عَرَفها كما ينبغي شهِدَ أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، الذي له الملكُ كلُّه، وله الحمدُ كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يرجع الأمرُ كلُّه، وله القوة كلُّها، والقدرةُ كلُّها، والعزُّ كلُّه، والحكمةُ كلُّها، والكمالُ المطلقُ من جميع الوجوه؛ وعَرَف بمعرفة نفسه صدقَ أنبيائه ورسله، وأنَّ الذي جاؤوا به هو الحقُّ الذي تشهد به العقول، وتُقِرُّ به الفِطر؛ وما خالفه فهو الباطل. وبالله التوفيق.


الروح (1/ 345 – 351 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله