كيفية التلبية وبيان ما اشتملت عليه من القواعد العظيمة والفوائد الجليلة

٨ - باب كيف التلبية

١٣٣/ ١٧٣٨ -  عن عبد الله بن عمر: «أنَّ تلبيةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لبَّيْكَ اللهم لبيك، لبَّيك لا شريكَ لكَ لبيك، إنَّ الحمدَ، والنعمةَ لكَ والملكَ، لا شريكَ لك، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك لبيك، لبيك وسَعْديك، والخير بيديك، والرَّغْبَاءُ إليك والعمل».

وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.

قال ابن القيم رحمه الله: في معنى التلبية ثمانية أقوال:

أحدها: إجابةً لك بعد إجابة، ولهذا المعنى كُرِّرت التلبية إيذانًا بتكرير الإجابة.

الثاني: أنه انقياد لكَ بعد انقياد، من قولهم: لبَّبْتُ الرجلَ، إذا قبضتُ على تلابيبه، ومنه: «فلبّبْتُه بردائه». والمعنى: انقدْتُ لكَ، وسَعَت نفسي لك خاضعةً ذليلة، كما يُفْعَل بمن لُبِّبَ بردائه، وقُبِضَ على تلابيبه.

الثالث: أنه مِن «لَبّ بالمكان» ، إذا أقام به ولزمه. والمعنى: أنا مقيم على طاعتك ملازم لها. اختاره صاحب «الصَّحاح».

الرابع: أنه مِن قولهم: «داري تلُبُّ دارَك» ، أي تواجهها وتقابلها، أي: أنا مواجِهُك بما تحبُ متوجِّه إليك. حكاه في «الصَّحاح» عن الخليل.

الخامس: معناه: حُبًّا لكَ بعد حُبّ، مِن قولهم: امرأةٌ لَبَّة، إذا كانت مُحِبّة لولدها.

السادس: أنه مأخوذ مِن لُبّ الشيء، وهو خالصه، ومنه: لُبّ الطعام، ولُبّ الرجل: عقلُه وقلبُه. ومعناه: أخلصت لُبّي وقَلْبي لك، وجعلتُ لك لُبِّي وخالصتي.

السابع: أنه مِن قولهم: فلانٌ رَخيُّ اللَّبَبِ، وفي لَبَبٍ رَخِيٍّ، أي: في حالٍ واسعةٍ منشرح الصدر. ومعناه: أني منشرحُ الصدر متسعُ القلب لقبول دعوتك وإجابتها، متوجه إليك بلَبَبٍ رَخِيّ توجّه المحبّ إلى محبوبه، لا بِكُره ولا تكلُّف.

الثامن: أنه من الإلباب، وهو الاقتراب: أي اقترابًا إليك بعد اقتراب، كما يتقرَّب المحبّ من محبوبه.

و «سعديك»: من المساعدة، وهي المُطاوَعة. ومعناه: مساعدةً في طاعتك وما تحبّ بعد مساعدة.

قال الجَرْمي: ولم يُسْمَع «سعديك» مفردًا.

و «الرَّغْباء إليك» يقال: بفتح الراء مع المدّ، وبضمها مع القَصْر. ومعناها الطلب والمسألة والرغبة.

واختلف النُّحاة في الياء في «لبيك». فقال سيبويه: هي ياء التثنية. وهو من المُلْتَزم نصبُه على المصدر، كقولهم: حمدًا وشكرًا وكرامةً ومسرَّةً.

والتزموا تثنيتَه إيذانًا بتكرير معناه واستدامته. والتزموا إضافتَه إلى ضمير المخاطَب لما خصوه بإجابة الداعي. وقد جاء إضافته إلى ضمير الغائب نادرًا، كقول الشاعر:

دعوتُ لِمَا نابني مسورًا … فلبَّى فلبَّيْ يَدَي مسور

والتثنية فيه كالتثنية في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4] وليس المراد ما يشفع الواحد فقط. وكذلك «سعديك ودواليك».

وقال يونس: هو مفرد، والياء فيه مثل الياء في «عليك وإليك ولديك».

ومِن حُجَّة سيبويه على يونس: أن «على» و «إلى» يختلفان بحسب الإضافة، فإن جَرَّا مُضمرًا كانا بالياء، وإن جَرَّا ظاهرًا كانا بالألف، فلو كان «لبيك» كذلك لما كان بالياء في جميع أحواله، سواء أضيف إلى ظاهر أو مضمر، كما قال: «فلبّي يَدَي مِسْور».

وقالت طائفة من النحاة: أصلُ الكلمة لبًّا لبًّا، أي إجابة بعد إجابة، فثقل عليهم تكرار الكلمة، فجمعوا بين اللفظين ليكون أخفَّ عليهم، فجاءت التثنيةُ وحُذِف التنوين لأجل الإضافة.

وقد‌‌ اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة:

إحداها: أن قولك «لبيك» يتضمن إجابة داعٍ دعاك ومنادٍ ناداك، ولا يصح في لغةٍ ولا عقل إجابةُ مَن لا يتكلَّم ولا يدعو.

الثانية: أنها تتضمن المحبة كما تقدم، ولا يقال «لبيك» إلا لمن تحبُّه وتعظِّمُه، ولهذا قيل في معناها: أنا مواجِهٌ لك بما تحبّ، وأنها من قولهم: امرأة لَبَّة، أي مُحِبّة لولدها.

الثالثة: أنها تتضمّن التزام دوام العبودية، ولهذا قيل: هي من الإقامة، أي: أنا مقيم على طاعتك.

الرابعة: أنها تتضمن الخضوعَ والذُّلَّ، أي خضوعًا لك بعد خضوع، من قولهم. أنا مُلِبّ بين يديك، أي خاضع ذليل.

الخامسة: أنها تتضمّن الإخلاص، ولهذا قيل: إنها من اللُّبّ، وهو الخالص.

السادسة: أنها تتضمّن الإقرار بسمع الرب تعالى، إذ يستحيل أن يقول الرجل «لبيك» لمن لا يسمع دعاءه.

السابعة: أنها تتضمّن التقرُّب من الله، ولهذا قيل: من الإلباب، وهو التقرُّب.

الثامنة: أنها جُعِلَت في الإحرام شعار الانتقال من حال إلى حال، ومن مَنْسك إلى مَنْسك، كما جُعل التكبير في الصلاة شعار الانتقال من ركن إلى ركن، ولهذا السنةُ أن يُلَبِّي حتى يَشْرَع في الطواف، فيقطع التلبية، ثم إذا سار لبَّى حتى يقف بعرفة فيقطعها، ثم يلبِّي حتى يقف بمزدلفة فيقطعها، ثم يلبِّي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها، فالتلبية شعار الحجِّ والتنقُّل في أعمال المناسك، فالحاجُّ كلما انتقل من ركن إلى ركن قال: «لبيك اللهم لبيك» كما أن المصلي يقول في انتقاله من ركن إلى ركن: «الله أكبر»، فإذا حلّ من نُسُكه قطعها، كما يكون سلام المصلي قاطعًا لتكبيره.

التاسعة: أنها شعار التوحيد وملّة إبراهيم، الذي هو روح الحجِّ ومقصده، بل روح العبادات كلها والمقصود منها. ولهذا كانت التلبية مفتاح هذه العبادة التي يُدْخَل فيها بها.

العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يُدخَل منه إليه، وهو كلمة الإخلاص والشهادة لله بأنه لا شريك له.

الحادية عشر: أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو مِن أحبِّ ما يَتَقرَّب به العبدُ إلى الله، وأول من يُدعَى إلى الجنة أهلُه، وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.

الثانية عشر: أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلِّها، ولهذا عرَّفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك ومنك ، وأنتَ موليها والمُنْعِم بها.

الثالثة عشر: أنها مشتملة على الاعتراف بأن المُلْك كلَّه لله وحده، فلا مُلك على الحقيقة لغيره.

الرابعة عشر: أن هذا المعنى مؤكَّد الثبوت بـ «إنَّ» المقتضية تحقيق الخبر وتثبيته، وأنه مما لا يدخله ريبٌ ولا شكّ.

الخامسة عشر: في «أنّ» وجهان: فتحها وكسرها، فمن فتحها تضمَّنت معنى التعليل، أي لبيك لأنّ الحمدَ والنعمةَ لك. ومَن كسرها كانت جملةً مستقلّةً مستأنَفَةً، تتضمن ابتداءَ الثناء على الله، والثناءُ إذا كَثُرت جُمَلُه وتعدَّدَت كان أحسن من قِلّتها، وأما إذا فُتِحت فإنها تُقدَّر بلام التعليل المحذوفة معها قياسًا، والمعنى: لبيك لأن الحمد لك، والفرق بين أن تكون جُمَل الثناء علةً لغيرها وبين أن تكون مستقلةً مرادة لنفسها، ولهذا قال ثعلب: من قال «إن» بالكسر فقد عمّ، ومَن قال: «أن» بالفتح فقد خصّ.

ونظير هذين الوجهين والتعليلين والترجيح سواء قوله تعالى حكاية عن المؤمنين: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] بكسر «إن» وفتحها. فمَن فتَحَ كان المعنى: «ندعوه لأنه هو البَرُّ الرحيم»، ومَن كَسَر كان الكلام جملتين، إحداهما قولهم: «ندعوه» ، ثم استأنف فقال: «إنه هو البر الرحيم» ، قال أبو عبيد: والكسر أحسن، ورجَّحَه بما ذكرناه.

السادسة عشر: أنها متضمِّنة للإخبار عن اجتماع المُلْك والنعمة والحمد لله عز وجل، وهذا نوعٌ آخر مِن الثناء عليه، غير الثناء بمفردات تلك الأوصاف العَليَّة، فله سبحانه من أوصافه العُلى نوعا ثناءٍ: نوعٌ متعلِّق بكلّ صِفَةٍ صِفَةٍ على انفرادها، ونوعٌ متعلِّق باجتماعها، وهو كمالٌ مع كمال، وهو غاية الكمال، والله سبحانه يَقْرِن في صفاته بين المُلك والحمد، ويُنَوِّع هذا المعنى إذ اقتران أحدهما بالآخر من أعظم الكمال؛ فالملك وحدَه كمال، والحمد كمال، واقتران أحدهما بالآخر كمال، فإذا اجتمع المُلك المتضمِّن للقدرة مع النعمة المتضمِّنة لغاية النفع والإحسان والرحمة، مع الحَمْد المتضمِّن لغاية الجلال والإكرام الداعي إلى محبَّته= كان في ذلك من العَظَمة والكمال والجلال ما هو أولى به وهو أهله، وكان في ذِكْر الحَمْد له ومعرفته به من انجذاب قلبه إلى الله وإقباله عليه، والتوجُّه بدواعي المحبَّة كلها إليه= ما هو مقصود العبودية ولُبّها. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ونظير هذا: اقتران الغِنَى بالكرم، كقوله: {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] فله كمالٌ مِن غناه وكرمه، ومنِ اقتران أحدهما بالآخر.

ونظيره اقتران العِزّة بالرحمة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:9]. ونظيره اقتران العفو بالقدرة: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149]. ونظيره اقتران العِلْم بالحلم: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء:12]. ونظيره اقتران الرحمة بالقدرة: {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:7]. وهذا يُطْلِع ذا اللبِّ على رياضٍ من العلم أنيقات، ويفتح له بابَ محبَّةِ الله ومعرفته، والله المستعان وعليه التكلان.

السابعة عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» وقد اشتملت التلبيةُ على هذه الكلمات بعينها، وتضمَّنت معانيها، وقوله: «وهو على كل شيء قدير» ، لك أن تُدخلها تحت قولك في التلبية: «لا شريك لك»، ولك أن تُدخلها تحت قولك: «إن الحمد لك». ولك أن تُدخلها تحت إثبات الملك له تعالى، إذ لو كان بعض الموجودات خارجًا عن قُدْرته ومُلكه، واقعًا بخلق غيره، لم يكن نفي الشريك عامًّا، ولم يكن إثبات الملك والحمد له عامًّا، وهذا من أعظم المحال، والمُلك كلُّه له، والحمد كلُّه له، وليس له شريك بوجه من الوجوه.

الثامنة عشر: أن كلمات التلبية متضمِّنة للردِّ على كلِّ مُبطِل في صفات الله وتوحيده؛ فإنها مُبْطِلة لقول المشركين على اختلاف طوائفهم ومقالاتهم، ولقول الفلاسفة وإخوانهم من الجهمية المعطِّلين لصفات الكمال التي هي مُتعَلَّق الحمدِ، فهو سبحانه محمودٌ لذاته ولصفاته ولأفعاله، فمَن جَحَد صفاته وأفعاله فقد جَحَد حَمْدَه.

ومُبْطِلةٌ لقول مجوس الأمة من القدَرِيَّة الذين أخرجوا عن ملكِ الرب وقدرتِه أفعالَ عبادِه من الملائكة والجن والإنس، فلم يُثبِتوا له عليها قدرةً، ولا جعلوه خالقًا لها. فعلى قولهم لا تكون داخلةً تحت مُلكه، إذ مَنْ لا قدرةَ له على الشيء كيف يكون داخلًا تحت ملكه؟ فلم يجعلوا الملكَ كلَّه لله، ولم يجعلوه على كلِّ شيء قدير.

وأما الفلاسفة فعندهم لا قدرة له على شيءٍ البتة. فمن علم معنى هذه الكلمات وشهدها وأيقن بها بايَنَ جميعَ الطوائف المبطلة.

التاسعة عشر: في عطف المُلك على الحمد والنعمة بعد كمال الخَبَر، وهو قوله: «إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك» ولم يقل: إن الحمد والنعمة والملك لك= لطيفة بديعة، وهي: أن الكلام يصير بذلك جملتين مستقلّتين، فإنه لو قال: «إن الحمد والنعمة والملك لك» كان عطفُ الملكِ على ما قبله عطفَ مفردٍ على مفردٍ، فلما تمَّت الجملةُ الأولى بقوله «لك» ثم عَطَف الملكَ، كان تقديره: والملك لك. فيكون مساويًا لقوله: «له الملك وله الحمد» ، ولم يقل: له الملك والحمد، وفائدته تكرار الجُمَل في الثناء.

العشرون: لمَّا عَطَف النعمةَ على الحمد ولم يفصل بينهما بالخبر، كان فيه إشعار باقترانهما وتلازمهما، وعدم مفارقة أحدهما للآخر، فالإنعام والحمد قرينان.

الحادية والعشرون: في إعادة الشهادة له بأنه لا شريك له لطيفة، وهو: أنه أخبر أنه لا شريك له عقب إجابته بقوله «لبيك» ، ثم أعادها عقب قوله: «إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك لا شريكَ لك». وذلك يتضمَّن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك، والأول يتضمَّن أنه لا شريك لك في إجابة هذه الدعوة، وهذا نظير قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] فأخبر بأنه «لا إله إلا هو» في أول الآية، وذلك داخل تحت شهادته وشهادة ملائكته وأولي العلم، وهذا هو المشهود به، ثم أخبر عن قيامه بالقسط وهو العدل، فأعاد الشهادةَ بأنه لا إله إلا هو مع قيامه بالقسط.


تهذيب سنن أبي داود - ط عطاءات العلم (١/ ٣٣٣ - ٣٤٣)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله