هذا السماع الشيطاني المضادّ للسماع الرحماني له في الشرع بضعة عشر اسمًا:
اللهو، واللغو، والباطل، والزور، والمُكاء، والتصدية، ورُقية الزنى، وقرآن الشيطان، ومُنبت النفاق في القلب، والصوتُ الأحمق، والصوت الفاجر، وصوتُ الشيطان، ومزمور الشيطان، والسمودُ.
أسْمَاؤُهُ دَلّتْ عَلَى أَوْصَافِهِ … تَبًّا لِذي الأَسْمَاءِ والأَوْصَافِ
فنذكر مجاري هذه الأسماء، ووقوعها عليه في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة؛ ليعلم أصحابُهُ وأهلُه بما به ظفروا، وأيَّ تجارةٍ رابحةٍ خسروا!
فدعْ صاحبَ المزمارِ والدفِّ والغنا … وما اختاره عن طاعةِ الله مَذهبا
ودَعْه يَعِشْ في غَيِّه وضلاله … على تانَنا يحيا ويُبعَثُ أشيَبا
وفي تَنْتَنَا يومَ المعادِ نجاتُه … إلى الجنة الحمراء يُدعَى مقرَّبا
سيعلمُ يومَ العرضِ أيَّ بِضاعةٍ … أضاع وعند الوزن ما خفَّ أو رَبَا
ويعلمُ ما قد كان فيه حياتُه … إذا حُصِّلتْ أعمالُه كلُّها هَبَا
دَعاه الهدى والغيُّ مَن ذا يُجِيبُه … فقال لداعي الغيِّ أهلاً ومرحبا
وأعرضَ عن داعي الهدى قائلاً له … هواي إلى صوت المعازف قد صبا
يَراعٌ ودُفٌّ بالصُّنوجِ وشاهدٌ … وصوتُ مغنٍّ صوتُه يَقْنِص الظِّبا
إذا ما تغنَّى فالظِّباء مُجِيبةٌ … إلى أن يراها حولَه تُشبِه الدّبا
فما شئتَ من صيدٍ بغير تطاردٍ … ووصلِ حبيبٍ كان بالهجرِ عذَّبا
فيا آمرِيْ بالرشدِ لو كنتَ حاضرًا … لكان إلى المنْهيِّ عندك أقربا
فصل
فالاسم الأول: اللهو ولهو الحديث.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 6، 7].
قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء.
قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه.
وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبى الصهباء عنه.
وهو قول مجاهد، وعكرمة.
وروى ثور بن أبي فاختة، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}، قال: «هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الجَارِيَةَ، تُغَنِّيهِ ليْلاً وَنهَارًا».
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: «هو اشتراء المغنِّي والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل».
وهذا قول مكحول.
وهذا اختيار أبي إسحاق أيضًا، وقال: أكثر ما جاء في التفسير أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء؛ لأنه يُلهي عن ذكر الله.
قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشِّراي، فلفظ الشِّراي يُذكَرُ في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن.
قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية: «لعله أن لا يكون أنفق مالاً»، قال: «وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق».
قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدلُّ على تحريم الغناء.
ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء.
قال: وأما غِناء القَيْنَاتِ فذلك أشدّ ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى قَيْنَةٍ صُبَّ في أُذنيه الآنُك يوم القيامة». الآنُك: الرّصَاص المذاب.
وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي «مسند الإمام أحمد»، و «مسند عبد الله بن الزبير الحميدي»، و «جامع الترمذي» من حديث أبي أمامة ــ والسياق للترمذي ــ أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَبيعوا القَيناتِ، ولا تشتروهنَّ، ولا تُعلِّموهن، ولا خيرَ في تجارةٍ فيهنَّ، وثمنهن حرام»، في مثل هذا نزلت هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6].
وهذا الحديث وإن كان مداره على عبيد الله بن زَحْرٍ عن علي بن يزيد عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف؛ إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله.
ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه الغناء، فقد صحَّ ذلك عن ابن عباس وابن مسعود.
قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}؟ فقال: والله الذي لا إله غيره؛ هو الغناء، يُردِّدها ثلاث مرات.
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا: أنه الغناء.
قال الحاكم أبو عبد الله في «التفسير»، من كتابه «المستدرك»: «ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل ــ عند الشيخين ــ حديثٌ مسند».
وقال في موضع آخر من كتابه: «هو عندنا في حكم المرفوع».
وهذا ــ وإن كان فيه نظر ــ فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير مَنْ بَعدهم؛ فهم أعلم الأمة بمراد الله من كتابه، فعليهم نزل، وهم أولُ من خُوطِبَ به من الأمّة، وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علمًا وعملاً، وهم العرب الفُصحاء على الحقيقة، فلا مَعدلَ عن تفسيرهم ما وُجد إليه سبيل.
ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيرها بأخبار الأعاجم وملوكها وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يُحدِّث به أهل مكة، ليشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث.
ولهذا قال ابن عباس: «لهو الحديث: الباطل والغناء».
فمن الصحابة مَن ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما.
والغناء أشد لهوًا، وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رُقْية الزنى، ومُنبِتُ النفاق، وشَرَك الشيطان، وخَمْرة العقل، وصدُّه عن القرآن أعظم من صدِّ غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.
إذا عُرف هذا فأهل الغناء ومُستمعوه لهم نصيب من هذا الذم، بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه؛ فإن الآيات تضمنت ذمّ من استبدل لهو الحديث بالقرآن؛ ليُضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا، وإذا تُلي عليه القرآن ولّى مستكبرًا كأن لم يسمعه، كأن في أذنيه وقرًا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئًا استهزأ به.
فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومُستمعيهم؛ فلهم حصة ونصيب من هذا الذم.
يُوضحه: أنك لا تجد أحدًا عُني بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملاً، وفيه رغبةٌ عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عَدَلَ عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحالُ على أن يُسْكِتَ القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنِّي ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا أن يناله نصيبٌ وافر من هذا الذم، إن لم يُحِطْ به جميعه.
والكلام في هذا مع مَنْ في قلبه بعض حياة يُحِسّ بها، فأما من مات قلبُهُ، وعظمت فتنته، فقد سَدّ على نفسه طريق النصيحة: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].
فصل
الاسم الثاني والثالث: الزور، واللغو.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72].
قال محمد بن الحنفية: «الزور هاهنا الغناء».
وقاله ليثٌ عن مجاهد.
وقال الكلبيُّ: لا يحضرون مجالس الباطل.
واللغو في اللغة: كل ما يُلغَى ويُطرح.
والمعنى: لا يحضرون مجالس الباطل، وإذا مرّوا بكل ما يلغى من قول وعمل أكرموا أنفسهم أن يقفوا عليه أو يميلوا إليه.
ويدخل في هذا أعيادُ المشركين، كما فسرها به السلف، والغناء، وأنواع الباطل كلها.
قال الزجاج: «لا يُجالسون أهل المعاصي، ولا يُمالِئونهم عليها، ومروا مرَّ الكرام الذين لا يرضون باللغو؛ لأنهم يُكرمون أنفسهم عن الدخول فيه، والاختلاط بأهله».
وقد رُويَ أن عبد الله بن مسعود مَرَّ بلهو، فأعرض عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ أصْبحَ ابنُ مسعودٍ لكريمًا».
وقد أثنى الله سبحانه على من أعرض عن اللغو إذا سمعه؛ فقال: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
وهذه الآية، وإن كان سبب نزولها خاصًّا فمعناها عام متناول لكل من سمع لغوًا فأعرض عنه، وقال بلسانه أو بقلبه لأصحابه: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.
وتأمل كيف قال سبحانه: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ولم يقل: بالزور؛ لأن {يَشْهَدُونَ} بمعنى: يحضُرون، فمدحهم على ترك حضور مجالس الزور، فكيف بالتكلم به وفعله؟ والغِناءُ من أعظم الزور.
والزور: يُقال على الكلام الباطل، وعلى العمل الباطل، وعلى العين نفسها، كما في حديث معاوية لما أخذ قُصَّةً من شَعَرٍ يُوصل به، فقال: «هذا الزور». فالزور: القول والفعل والمحل.
وأصل اللفظة من الميل، ومنه الزَّوْر بالفتح.
ومنه: زُرتُ فلانًا، إذا مِلتَ إليه، وعَدلتَ إليه.
فالزُّور: مَيلٌ عن الحق الثابت إلى الباطل الذي لا حقيقة له، قولًا وفعلًا.
فصل
الاسم الرابع: الباطل.
والباطلُ: ضد الحق، يُراد به المعدوم الذي لا وجود له، والموجود الذي مَضَرّة وجوده أكثر من منفعته.
فمن الأول قول الموحِّد: كلُّ إله سوى الله باطلٌ، ومن الثاني قوله: السحر باطلٌ، والكفر باطل، قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
فالباطل إما معدوم لا وجود له، وإما موجود لا نفع لَه. فالكفرُ، والفسوق، والعصيان والسِّحْر، والغناء، واستماع الملاهي؛ كله من النوع الثاني.
قال ابن وهب: أخبرني سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، أنه سمع عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء؟ فقال له القاسم: هو باطل، فقال: قد عرفتُ أنه باطل، فكيف ترى فيه؟ فقال القاسم: أرأيت الباطل، أين هو؟ قال: في النار، قال: فهو ذاك.
وقال رجل لابن عباس: ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام؟ فقال: لا أقول حرامًا إلا ما في كتاب الله، فقال: أفحلالٌ هو؟ فقال: ولا أقول ذلك، ثم قال له: أرأيت الحقّ والباطل، إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء؟ فقال الرجل: يكون مع الباطل، فقال له ابن عباس: اذهبْ فقد أفتيتَ نفسَك.
فهذا جوابُ ابن عباس عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر والزنى واللواط، والتشبيب بالأجنبيَّات، وأصوات المعازف والآلات المطربات؛ فإن غناء القوم لم يكن فيه شيءٌ من ذلك، ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول، فإن مضرّته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم من فتنته؛ فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعةٌ بإباحته.
فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المُذَكَّاة، والتحليل الملعون فاعلُهُ على النكاح الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل من التخلي لنوافِل العبادة، فلو كان نكاحُ التحليل جائزًا في الشرع؛ لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع، فضلًا أن يلعن فاعله.
فصل
وأما اسم المكاء والتصدية:
فقال تعالى عن الكفار: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35].
قال ابن عباس، وابن عمر، وعطية، ومجاهد، والضحاك، والحسن، وقتادة: المُكاء: الصّفير، والتّصديةُ: التصفيق.
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير، يقال: مكا يمكو مُكاءً: إذا جمع يديه ثم صفَّر فيهما، ومنه: مَكَتِ اسْتُ الدابة، إذا خرجت منها الريح بصوت، ولهذا جاء على بناء الأصوات، كالرُّغاء والعُواء والثُّغاء.
قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين: النِّداء، والغِناء.
وأما التصدية ففي اللغة: التصفيق، يقال: صَدَّى، يُصَدِّي، تَصْدِيةً: إذا صفّق بيديه. قال حسان بن ثابت، يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
إذَا قامَ المَلائِكَةُ انْبَعَثْتُمْ … صَلاتُكُمُ التَّصَدِّي وَالمُكاءُ
وهكذا الأشباه؛ يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع، وهم في التصفير والتصفيق.
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عُراةً، ويُصَفِّرون ويُصفِّقون.
وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، ويصفِّرون ويُصفِّقون، يَخْلطون عليه طوافه وصلاته.
ونحوه عن مقاتل.
ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا.
فالمتقرِّبون إلى الله بالصفير والتصفيق: أشباهُ النوع الأول، وإخوانهم المخلِّطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة: أشباه النوع الثاني.
قال ابن عرفة، وابن الأنباري: المُكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أُمروا بها: المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك عظيم الأوزار، وهذا كقولك: زُرْته، فجعل جفائي صِلَتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة.
والمقصود أن المصفِّقين والصفَّارين في يَراع أو مِزْمار ونحوه فيهم شَبَهٌ من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشَّبه الظاهر، فلهم قِسْط من الذم، بحسب تشبُّههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مُكائهم وتصديتهم.
والله سبحانه لم يَشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمرٌ؛ بل أُمروا بالعدول عنه إلى التسبيح؛ لئلا يتشبّهوا بالنساء، فكيف إذا فعلوه لا لحاجة، وقرنوا به أنواعًا من المعاصي قولًا وفعلًا؟
فصل
أما تسميته رُقية الزنى:
فهو اسمٌ موافقٌ لمسمَّاه، ولفظٌ مطابق لمعناه، فليس في رُقى الزنى أنجعُ منه، وهذه التسمية معروفة عن الفُضيل بن عِياض.
قال ابن أبى الدنيا: أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قال فُضيل بن عياض: الغناء رُقْية الزنى.
قال: وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبى عثمان الليثي، قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أُمية! إياكم والغِناء، فإنه ينقُص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم ــ لابُدَّ فاعلين؛ فجنِّبوه النساء؛ فإن الغناء داعيةُ الزنى.
قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي، قال: نزل الحُطَيْئَةُ برجل من العرب، ومعه ابنته مُلَيْكة، فلما جَنَّه الليلُ سمع غناءً، فقال لصاحب المنزل: كُفَّ هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائدٌ من رَادَةِ الفجور، ولا أُحب أن تُسمِعَه هذه ــ يعني ابنته ــ، فإن كففته وإلا خرجتُ عنك.
ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كُنّا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناءً من الليل، فأرسل إليهم بُكرةً، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل؛ فَتَسْتَوْدِقُ له الرَّمَكَة، وإن الفحل ليهدِرُ فتَضْبَع له الناقة، وإن التيس ليَنِبُّ فتستحرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة! ثم قال: اخصوهم، فقال عمر بن عبد العزيز: هذه مُثلة، فلا تحِلُّ؛ فخلِّ قال: فخلَّى سبيلَهم.
قال: وأخبرنا الحسين بن عبد الرحمن، قال: قال أبو عُبيدة معمر بن المثنى: جاور الحُطيئة قومًا من بني كُلَيْب، فمشى ذَوُو النُّهى منهم بعضهم إلى بعض، وقالوا: يا قوم! إنكم قد رُميتُم بداهيةٍ، هذا الرجل شاعر، والشاعر يَظنُّ فيُحقِّق، ولا يستأني فيتَثبَّت، ولا يأخذ الفضل فيعفو، فأتوه وهو في فناء خبائه، فقالوا: يا أبا مُليكة! إنه قد عَظُم حقك علينا؛ بتخطِّيك القبائل إلينا، وقد أتيناك لنسألك عما تُحِب فنأتيه، وعما تكره فنزدجر عنه، فقال: جنِّبُوني نَدِيّ مجلسكم، ولا تُسمِعُوني أغاني شبيبتكم؛ فإن الغناء رُقية الزنى.
فإذا كان هذا الشاعر المفتوقُ اللسان، الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رُقيته إلى حُرمته، فما الظن بغيره؟
ولا ريب أن كل غَيور يُجنِّب أهله سماع الغناء، كما يُجنِّبهن أسباب الريب. ومن طَرَّق أهله إلى سماع رُقية الزنى فهو أعلمُ بالاسم الذي يستحقه.
ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد على أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذ تُعطِي اللَّيان.
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًّا، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشةَ حاديهِ: «يا أنجشة! رويدًا رفقًا بالقوارير». يعني النساء.
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية: الدف، والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر؛ فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء.
فلعمرُ الله كم من حُرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حُرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان أو الصبايا! وكم من غيور تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا! وكم من ذي غِنىً وثروةٍ أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا! وكم من مُعافًى تعرّض له، فأمسى وقد حلّت به أنواعُ البلايا! وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان، فلم يجد بُدًّا من قبول تلك الهدايا!
وكم جَرّع من غُصّةٍ، وأزال من نعمة، وجلب من نقمةٍ! وذلك منه من إحدى العطايا! وكم خَبَّأ لأهله من آلام مُنتظرة، وغموم مُتوقّعة، وهمومٍ مستقبلة!
فَسَلْ ذا خِبْرَةٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ … لِتَعْلَم كَمْ خَبَايا في الزَّوَايَا
وَحاذِرْ إنْ شُغِفْت بِه سِهَامًا … مُرَيَّشَةً بأَهْدَابِ المَنَايَا
إِذا مَا خَالَطَتْ قَلْبًا كَئِيبًا … تَمَزَّقَ بَينَ أطباقِ الرَّزَايَا
وَيُصْبِحُ بَعْدَ أن قَدْ كانَ حُرًّا … عَفِيفَ الفَرْجِ: عَبْدًا لِلصّبايَا
وَيُعْطِي مَنْ بهِ يُعْنى غِنَاءً … وذلِكَ مِنْهُ مِنْ شَرِّ العَطَايَا
فصل
وأما تسميته مُنبت النفاق:
فقال علي بن الجعد: حدثنا محمد بن طلحة، عن سعيد بن كَعب المروزي، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: «الغناء يُنْبِت النفاق في القلب كما يُنْبِت الماءُ الزرع، والذكر يُنبت الإيمانَ في القلب كما يُنبت الماءُ الزرعَ».
وقال شُعبة: حدثنا الحكَم، عن حمادٍ، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود: «الغناء يُنبت النفاق في القلب».
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله.
وقد روي عن ابن مسعود مرفوعًا، رواه ابن أبى الدنيا في كتاب «ذم الملاهي»: أخبرنا عصمة بن الفضل، حدثنا حَرَميّ بن عُمارة، حدثنا سلّام بن مِسكين، حدثنا شيخ، عن أبى وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الغناء يُنبت النفاق في القلب كما يُنبت الماء البَقلَ».
وقد تابع حرميَّ بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مُسلمُ بن إبراهيم:
قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب «أحكام الملاهي»: حدثنا محمد بن على بن عبد الله بن حمدان المعروف بحمدان الوَرَّاق، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا سلّام بن مسكين، فذكر الحديث.
فمداره على هذا الشيخ المجهول، وفي رفعه نظر، والموقوف أصح.
فإن قيل: فما وجه إنباتِه للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي؟
قيل: هذا من أدلِّ شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داوَوا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السّقم بالسُّم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركَّبوها، أو بأكثرها، فاتفق قِلّةُ الأطباء، وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مُزمنةٍ لم تكن في السلف، والعدولُ عن الدواء النافع الذي ركّبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوِّي مادة المرض، فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يَطُبُّ الناس.
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء.
فمن خواصِّه: أنه يُلهي القلب ويصدُّه عن فهم القرآن وتدبُّره، والعمل بما فيه؛ فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضادّ؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعِفَّة، ومُجانبة شهوات النفوس وأسباب الغيّ، وينهى عن اتباع خُطُوات الشيطان. والغناء يأمر بضد ذلك كلِّه، ويُحسِّنه، ويُهيِّج النفوس إلى شهوات الغيِّ، فيُثِير كامِنَها، ويُزعجُ قاطنها، ويُحرِّكها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمرُ رضيعا لبانٍ، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صِنوُ الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وخَدينُه وصديقه، عَقَدَ الشيطانُ بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفْسَخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تُنسخ، وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسُوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطّلع على سرائر الأفئدة، ويَدِبُّ إلى محل التخييل، فيُثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرّقاعة والرعونة والحماقة.
فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبَهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقلُه، وقَلّ حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بَهاؤه، وتخلّى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانُه، وثَقُل عليه قرآنه، وقال: يا رب! لا تجمع بيني وبين قرآن عدوِّك في صدرٍ واحدٍ. فاستحسنَ ما كان قبل السَّماع يستقبحه، وأبدى من سِرِّه ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب، والزهزهة والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهزُّ منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدقّ على أُمِّ رأسه بيديه، ويَثِبُ وثباتِ الدِّبابِ، ويدور دوران الحمار حول الدولاب، ويصفِّق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوَجْد كخُوار الثيران، وتارةً يتأوّه تأوّه الحزين، وتارةً يزعق زعقات المجانين، ولقد صدق الخبيرُ به من أهله حيث يقول:
أتذْكُرُ لَيْلَةً وَقَدِ اجْتَمعْنَا … عَلَى طِيبِ السَّماعِ إلى الصَّبَاحِ
وَدَارَتْ بَيْننَا كأْسُ الأغَاني … فأَسْكَرَتِ النُّفُوسَ بِغَيْرِ رَاحِ
فَلمْ تَرَ فيهِمُ إِلا نَشَاوَى … سُرُورًا وَالسُّرُورُ هُنَاك صَاحِي
إذَا نَادَى أَخُو الّلذّاتِ فِيهِ … أَجابَ الّلهْوُ حَيَّ عَلَى السَّماحِ
وَلَمْ نَملِكْ سِوَى المُهَجَاتِ شَيْئًا … أَرَقْنَاهَا لأَلْحَاظِ مِلَاح
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قومٍ، والعناد في قومٍ، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم.
وأكثر ما يورث: عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانُه يثقِّل القرآن على القلب، ويُكَرِّهه إلى سماعه بالخاصية، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة!
وسرُّ المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا.
وأيضًا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهرُ الباطنَ، وصاحبُ الغناء بين أمرين: إما أن يتهتّك فيكون فاجرًا، أو يُظهر النُّسُك فيكون منافقًا، فإنه يُظهر الرغبة في الله والدار الآخرة؛ وقلبه يَغْلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف، وآلات اللَّهو، وما يدعو إليه الغناء ويُهَيِّجُه فقلبُه بذلك معْمور، وهو من محبة ما يحبُّه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قَفر، وهذا محض النفاق.
وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل: قولٌ بالحق، وعمل بالطَّاعة، وهذا ينبُتُ على الذكر، وتلاوة القرآن. والنفاقُ قول الباطل، وعملُ الغيِّ، وهذا ينبُت على الغناء.
وأيضًا فمن علامات النفاق: قِلّة ذِكر الله، والكسلُ عند القيام إلى الصلاة، ونقرُ الصلاة، وقَلَّ أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه.
وأيضًا فإن النفاق مُؤَسَّس على الكذب، والغِنَاء من أكذب الشِّعر؛ فإنه يُحسِّن القبيح ويزينه، ويأمر به، ويُقبِّح الحسن ويُزَهِّد فيه، وذلك عين النفاق. وأيضًا فإن النفاق غِشٌّ ومكر وخداع، والغناء مؤسَّسٌ على ذلك.
وأيضًا فإن المنافق يُفسد من حيث يظنُّ أنه يُصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يُصلِحه، والمغنِّي يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات.
قال الضحاك: «الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب».
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدِّب ولده: «ليكن أوّل ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بَدْؤُها من الشيطان، وعاقبتُها سخطُ الرحمن؛ فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللَّهج بها، يُنبِتُ النفاقَ في القلب كما يَنْبُتُ العُشبُ على الماء».
فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.
وبالجملة فإذا تأمَّل البصير حالَ أهل الغناء، وحال أهل الذكر والقرآن، تبيَّن له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق.
فصل
وأما تسميته قرآن الشيطان:
فمأثورٌ عن التابعين، وقد رُوِي فيه حديث مرفوع.
قال قتادة: لما أُهبط إبليس قال: يا رب! لعنتني، فما عملي؟ قال: السحر، قال فما قرآني؟ قال: الشعرُ، قال: فما كتابي؟ قال: الوَشْم، قال: فما طعامي؟ قال: كل ميتة، وما لم يُذكر اسم الله عليه، قال: فما شرابي؟ قال: كل مُسْكر، قال: فأين مسكني؟ قال: الأسواق، قال: فما صوتي؟ قال: المزامير، قال: فما مصايدي؟ قال: النساء.
هذا هو المعروف في هذا، وَقْفُه.
وقد رواه الطبراني في «معجمه» من حديث أبى أمامة مرفوعًا إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبى الدنيا في كتاب «مكايد الشيطان وحِيَله»: حدثنا أبو بكر التميمي، حدثنا ابن أبى مريم، حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا ابن زَحر، عن عليٍّ بن يزيد، عن القاسم عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس لما أُنزل إلى الأرض قال: يا رب! أنزلتني إلى الأرض، وجعلتني رجيمًا، فاجعل لي بيتًا، قال: الحمَّامُ، قال: فاجعل لي مجلسًا، قال: الأسواق ومجامع الطرق، قال: فاجعل لي طعامًا، قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شرابًا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤذنًا، قال: المزمار، قال: اجعل لي قرآنًا، قال: الشِّعْر، قال: اجعل لي كتابًا، قال: الوشم، قال: اجعل لي حديثًا، قال: الكذب، قال: اجعل لي رسلًا، قال: الكهنة، قال: اجعل لي مصايد، قال: النِّساء».
وشواهد هذا الأثر كثيرة، فكل جملة منه لها شاهد من السنة أو من القرآن:
فكون السِّحر من عمل الشيطان؛ شاهده قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102].
وأما كون الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود في «سننه» من حديث جُبير بن مُطعم: أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي، فقال: «الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، الحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بُكرةً وأصيلًا ــ ثلاثًا ــ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه». قال: نفثه: الشعر، ونفخه: الكِبْر، وهمزه: المُوتة.
ولما عَلّم الله رسوله القرآن وهو كلامه؛ صانه عن تعليم قرآن الشيطان، وأخبر أنه لا ينبغي له، فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69].
وأما كون الوشم كتابَهُ؛ فإنه من عمله وتزيينه، ولهذا لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة؛ فلعن الكاتبة والمكتوب عليها.
وأما كون الميتةِ ومتروك التسمية طعامه؛ فإن الشيطان يستحلُّ الطعامَ إذا لم يُذكر اسم الله عليه، ويشارك آكله، والميتة لا يُذكر اسم الله عليها، فهي وكلّ طعام لم يُذكر عليه اسم الله: من طعامه، ولهذا لما سأل الجن الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد، قال: «لكم كلُّ عَظْمٍ ذُكر اسم الله عليه». فلم يُبح لهم طعام الشياطين، وهو متروك التسمية.
وأما كون المُسكِرَ شرابه؛ فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، فهو شَرِبَ من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره، وشاركهم في عمله، فيشاركهم في عمله وشربه، وإثمه وعقوبته.
وأما كون الأسواق مجلسه؛ ففي الحديث الآخر: «أنه يَرْكُز رايته بالسُّوق».
ولهذا يَحْضره اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش، وكثيرٌ من عمله، وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدِّمة: «أنه ليس صخّابًا بالأسواق».
أما كون الحمّام بيته؛ فشاهده كونه غير محلٍّ للصلاة، وفي حديث أبي سعيد: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمّام»؛ ولأنه محل كشف العورات، وهو بيت مؤَسَّس على النار، وهى مادة الشيطان التي خُلق منها.
وأما كون المزمار مؤذِّنَه ففي غاية المناسبة؛ فإن الغناء قرآنُه، والرقص والتصفيق ــ اللذين هما المُكاء والتصدية ــ صلاته، فلابدَّ لهذه الصلاة من مؤذن وإمامٍ ومأموم: فالمؤذن المزمار، والإمامُ المغنِّي، والمأمومُ الحاضرون.
وأما كون الكذب حديثه؛ فهو الكاذبُ الآمر بالكذب، المزيِّن له، فكل كذب يقع في العالم؛ فهو تعليمه وحديثه.
وأما كون الكهنة رسُلَه؛ فلأن المشركين يُهْرَعون إليهم، ويفزعون إليهم في أمورهم العظام، ويُصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويرضون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرسل؛ فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويخبرون عن المغيَّبات التي لا يعرفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل، فالكهنةُ رسل الشيطان حقيقة، أرسلهم إلى حِزْبه من المشركين، وشبّههم بالرُّسل الصادقين، حتى استجاب لهم حزبُه، ومثّل رُسُل الله بهم ليُنفِّرَ عنهم، ويجعل رسُله هم الصادقين العالمين بالغيب.
ولمّا كان بين النوعين أعظمُ التضاد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنًا فصدَّقهُ بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ».
فإن الناس قسمان: أتباعُ الكهنة، وأتباع رسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبْعُد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكَذِّبُ الرَّسُولَ بقدر تصديقه للكاهن.
وقوله: «اجعل لي مصايد، قال: مصايدك النساء»، فالنساء أعظم شبكةٍ له، يصطاد بهنّ الرجال، كما سيأتي إن شاء الله في الفصل الذي بعد هذا.
والمقصود أن الغناء المحرم قرآن الشيطان.
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المُبْطلين قرنه بما يُزَيِّنه من الألحان المُطربة، وآلات الملاهي والمعازف، وأن يكون من امرأةٍ جميلةٍ، أو صبي جميل؛ ليكون ذلك أدَعى إلى قبول النفوس لقرآنه، وتَعَوُّضها به عن القرآن المجيد.
فصل
وأما تسميته بالصوت الأحمق، والصوت الفاجر:
فهي تسميةُ الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى.
فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاءٍ، عن جابر رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النّخْل، فإذا ابنه إبراهيم يجودُ بنفسه، فوضعه في حِجره، ففاضت عيناه، فقال عبد الرحمن: أتبكي، وأنت تَنْهَى الناسَ؟ قال: «إني لم أنْهَ عن البكاء؛ وإنما نهيتُ عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهوٍ ولعب ومزامير شيطان، وصوتٍ عند مصيبة: خَمْش وُجوه، وشَقّ جيوب، ورنّةٍ، وهذا هو رحمة، ومن لا يرحم لا يُرحم، لولا أنه أمرٌ حق، ووعدٌ صِدق، وأن آخرنا سيلحق أوّلنا؛ لحزنَّا عليك حُزنًا هو أشدّ من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العينُ ويحزنُ القلبُ، ولا نقول ما يُسخط الرب». قال الترمذي: «هذا حديث حسن».
فانظر إلى هذا النهي المؤكّد، بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق، ولم يقتصر على ذلك، حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك، حتى سمَّاه من مزامير الشيطان، وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مَزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي، فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهْيٍ أبدا.
وقد اختُلف في قوله: «لا تفعلْ»، وقوله: «نهيتُ عن كذا»؛ أيهما أبلغُ في التحريم؟
والصواب بلا ريب: أن صيغة «نهيتُ» أبلغ في التحريم؛ لأن «لا تفعلْ» يحتمل النهي وغيره، بخلاف الفعل الصريح.
فكيف يستجيز العارف إباحةَ ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمَّاه صوتًا أحمق فاجرًا، ومزمور الشيطان، وجعلَه والنياحة التي لعن فاعلها أخوين؟ وأخرج النهي عنهما مخرجًا واحدًا، ووصفهما بالحُمق والفجور وصفًا واحدًا؟
وقال الحسن: «صوتان ملعونان: مِزمارٌ عند نِعْمة، ورَنّة عند مصيبة».
وقال أبو بكر الهُذَلي: قلت للحسن: أكان نساءُ المهاجرات يصنعنَ ما يصنعُ النساء اليوم؟ قال: لا، ولكن هاهنا خمش وجوه، وشقُّ جيوب، ونتفُ أشعار، ولطمُ خدود، ومزامير شيطان، صوتان قبيحان فاحشان: عند نعْمة إن حدثَتْ، وعند مصيبة إن نزلت، ذكر الله المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]، وجعلتم أنتم في أموالكم حقًا معلومًا للمغنية عند النعْمة، والنائحة عند المصيبة.
فصل
وأما تسميته صوت الشيطان:
فقد قال تعالى للشيطان وحِزْبه: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 63، 64].
قال ابن أبى حاتم في «تفسيره»: حدثنا أبي، أخبرنا أبو صالح، كاتب الليث، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبى طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} كل داعٍ إلى معصية.
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فُسِّر صوت الشيطان به.
قال ابن أبى حاتم: حدثنا أبي، أخبرنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}، قال: «استزِلَّ منهم من استطعت» قال: «وصوتُه الغناء والباطل».
وبهذا الإسناد إلى جرير، عن منصور، عن مجاهد، قال: «صوته المزامير».
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري، قال: «صوته: هو الدف».
وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرَّجِل إليه كذلك، فكل متكلم بغير طاعة الله، وبصوت يَراع أو مزمار، أو دُفّ حرام، أو طبل؛ فذلك صوت الشيطان، وكل ساعٍ في معصية الله على قدميه فهو من رَجِله، وكل راكب في معصية الله فهو من خَيّالته، كذلك قال السلف.
كما ذكر ابن أبى حاتم عن ابن عباس، قال: «رَجِلُه: كل رِجْلٍ مشت في معصية الله».
وقال مجاهد: «كل رِجْلٍ تُقاتل في غير طاعة الله فهو من رَجِله».
وقال قتادة: «إن له خيلًا ورَجِلًا من الجن والإنس».
فصل
وأما تسميته مزمورَ الشيطان:
ففي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تُغنِّيان بغناء بُعَاث، فاضطجع على الفِراش، وحَوَّل وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه، فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأقبلَ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «دعهما»، فلما غفل غمزتُهما، فخرجتا.
فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى بكر تَسميته الغناء مزمار الشيطان، وأقرَّهما؛ لأنهما جاريتان غيرُ مكلَّفتين، تُغنيان بغناء الأعراب، الذي قيل في يوم حرب بُعاثٍ من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد.
فتوسّع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأةٍ جميلة أجنبية، أو صبيٍّ أمْرَد، صوتُه فتنة، وصورته فتنة، يُغنِّي بما يدعو إلى الزنى والفجور، وشرب الخمر، مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِدّة أحاديث كما سيأتي، مع التصفيق والرقص، وتلك الهيئةِ المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان، فضلًا عن أهل العلم والإيمان، ويحتجون بغناء جُوَيْريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب، في الشجاعة ونحوها، في يوم عيدٍ، بغير شَبّابةٍ ولا دُفًّ، ولا رقص ولا تصفيق، ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه، وهذا شأن كل مبطل.
نعم؛ نحن لا نحرِّم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الوجه، وإنما نحرِّم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماعَ المخالف لذلك، وبالله التوفيق.
فصل
وأما تسميته بالسُّمود:
فقد قال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 59 ـ 61].
قال عكرمة، عن ابن عباس: «السّمود: الغناء في لغة حِمْيَر»، يقال: اسمُدي لنا، أي: غنِّي لنا؛ قال أبو زبيد:
وكَأَنَّ العَزِيفَ فِيهَا غِنَاءٌ … لِلنَّدَامَى مِنْ شَارِبٍ مَسْمُودِ
قال أبو عبيدة: المسمود: الذي غُنِّي له.
وقال عكرمة: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنَّوا، فنزلت هذه الآية.
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السّمود: الغفلة والسهو عن الشيء.
قال المبرِّد: هو الاشتغال عن الشيء لهَمٍّ أو فرح، يتشاغل به، وأنشد:
رَمَى الْحَدَثَانُ نِسْوَةَ آلِ حرْبٍ … بمِقْدارٍ سَمَدْنَ لهُ سُمُودًا
وقال ابن الأنباري: السامد: اللاهي، والسَّامد: الغافل، والسامد: الساهي، والسامد: المتكبِّر، والسامد: القائم.
وقال ابن عباس في الآية: «وأنتم مستكبرون».
وقال الضحاك: «أَشِرونَ بَطِرُون».
وقال مجاهد: «غِضَابٌ مُبَرْطِمُون».
وقال غيره: «لاهون غافلون معرضون».
فالغناء يجمع هذا كلَّه ويوجبه.
فهذه أربعة عشر اسمًا، سوى اسم الغناء.
إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (1/ 419 – 456 ط عطاءات العلم)