تنبيه: تأمَّل حكمة الله عز وجل في الحفظ والنِّسيان الذي خَصَّ به نوعَ الإنسان وما له فيهما من الحِكم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوَّةُ الحافظةُ التي خُصَّ بها لدَخَل عليه الخللُ في أموره كلِّها ولم يَعْرِف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى، ولا ما سَمِع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذَكر من أحسَن إليه ولا من أساء إليه، ولا من عامله، ولا من نفَعه فيقرُب منه، ولا من ضرَّه فينأى عنه، ثمَّ كان لا يهتدي الطَّريق الذي سلكه أوَّل مرَّةٍ ولو سلكه مرارًا، ولا يعرفُ علمًا ولو دَرَسَه عمرَه، ولا ينتفعُ بتجربة، ولا يستطيعُ أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانيَّة أصلًا.
فتأمَّل عظيمَ المنفعة عليك في هذه الخِلال، وموقع الواحدة منهنَّ فضلًا عن جميعهنَّ.
ومِنْ أعجب النِّعم عليه نعمةُ النِّسيان؛ فإنه لولا النِّسيانُ لما سَلَا شيئًا، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزَّى عن مصيبة، ولا مات له حُزن، ولا بَطَل له حِقْد، ولا استمتع بشيءٍ من متاع الدُّنيا مع تذكُّر الآفات، ولا رجا غفلةً من عدوِّه ولا فترةً من حاسده.
فتأمَّل نعمة الله عليه في الحفظ والنِّسيان مع اختلافهما وتضادِّهما وجعَل له في كلِّ واحدٍ منهما ضربًا من المصلحة.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 787 - 788ط عطاءات العلم)