الدماغ آية من آيات الله

 وأما الدِّماغُ ــ وهو المُخُّ ــ، فإنه جُعِل باردًا، واختُلِفَ في حكمة ذلك:

فقالت طائفة: إنما كان الدِّماغُ باردًا لتبريد الحرارة التي في القلب؛ ليردَّها عن الإفراط إلى الاعتدال.

وردَّت طائفةٌ هذا، وقالت: لو كان كذلك لم يكن الدِّماغُ بعيدًا عن القلب، بل كان ينبغي أن يحيط به كالرِّئة، أو يكون قريبًا منه في الصَّدر؛ ليكسِرَ حرارتَه.

قالت الفرقةُ الأولى: بُعْدُ الدِّماغ من القلب لا يمنعُ ما ذكرناه من الحكمة؛ لأنه لو قَرُبَ منه لغلبَته حرارةُ القلب بقوَّتها، فجُعِلَ البُعدُ بينهما بحيثُ لا يتفاسَدان، وتعتدل كيفيةُ كلِّ واحدٍ منهما بكيفية الآخر، وهذا بخلاف الرِّئة، فإنها آلةٌ للتَّرويح على القلب لم تُجْعَل لتعديل حرارته.

وتوسَّطت فرقةٌ أخرى وقالت: بل المخُّ حارٌّ لكنه فاترُ الحرارة، وفيه تبريدٌ بالخاصيَّة، فإنه مبدأٌ للذهن، ولهذا كان الذِّهنُ يحتاجُ إلى موضعٍ ساكنٍ قارٍّ، صافٍ عن الأقذاء والكَدَر، خالٍ من الجَلَبة والزَّجَل.

ولذلك تكونُ جودةُ الفِكْر والتذكُّرُ واستخراجُ الصَّواب عند سكون البدن، وفُتور حركاته، وقلَّة شواغله ومزعجاته، ولذلك لم يصلُح لها القلب، وكان الدِّماغُ معتدلًا في ذلك صالحًا له.

ولذلك تجودُ هذه الأفعالُ في الليل، وفي المواضع الخالية، وتفسُد عند التهاب نار الغضب والشهوة، وعند الهمِّ الشديد، ومع التَّعب والحركات القوية البدنية والنفسانية.

وهذا بحثٌ متصلٌ بقاعدةٍ أخرى، وهي: أنَّ الحواسَّ والعقل، مبدؤها القلبُ أو الدِّماغ؟

فقالت طائفة: مبدؤها كلِّها القلب، وهي مرتبطةٌ به، وبينه وبين الحواسِّ منافذُ وطرق.

قالوا: وكلُّ واحدٍ من هذه الأعضاء التي هي آلاتُ الحواسِّ له اتصالٌ بالقلب بأعصابٍ وغير ذلك، وهذه الأعصابُ تخرجُ من القلب إلى أن تأتي إلى كلِّ واحدٍ من هذه الأجسام التي فيها هذه الحواسُّ، ومنشأ هذه الأعضاء من القلب، وهو مركَّبٌ من أشياء تُشاكِل جميعَ هذه الأجسام التي فيها هذه الحواسُّ.

قالوا: فالعينُ إذا أبصرت شيئًا أدَّته بالآلة التي فيها إلى القلب؛ لأنَّ هذه الآلة متصلةٌ منها إلى القلب، والسَّمعُ إذا أحسَّ صوتًا أدَّاه إلى القلب، وكذلك كلُّ حاسَّة ثمَّ أوردوا على أنفسهم سؤالًا، فقالوا: إن قيل: كيف يجوزُ أن يكون عضوٌ واحدٌ على ضروبٍ من الامتزاج يُمِدُّ عدَّة حواسَّ مختلفة، وأجسامُ هذه الحواسِّ مختلفة، وقوَّةُ كلِّ حاسَّةٍ مخالفةٌ لقوَّة الحاسَّة الأخرى؟

وأجابوا عن ذلك: بأنَّ جميعَ العروق التي في البدن كلها متصلةٌ بالقلب، إما بأنفسها وإما بواسطة، فما مِن عِرقٍ ولا عُضوٍ إلا وله اتصالٌ بالقلب اتصالًا قريبًا أو بعيدًا.

قالوا: وينبعثُ منه في تلك العروق والمجاري إلى كلِّ عضوٍ ما يناسبُه ويُشاكِلُه، فينبعثُ منه إلى العينين ما يكونُ منه حِسُّ البصر، وإلى الأذنين ما يُدرِكُ به المسموعات، وإلى اللَّحم ما يكونُ منه حِسُّ اللَّمس، وإلى الأنف ما يكون منه حِسُّ الشَّمِّ، وإلى اللسان ما يكونُ منه حِسُّ الذَّوق، وإلى كلِّ ذي قوَّةٍ ما يُمِدُّ قوَّتَه ويحفظُها، فهو المُمِدُّ لهذه الأعضاء والحواسِّ والقُوى؛ ولهذا كان الرأيُ الصحيحُ أنه أوَّلُ الأعضاء تكونًا.

قالوا: ولا ريب أنَّ مبدأ القوَّة العاقلة منه، وإن كان قد خالفَ في ذلك آخرون، وقالوا: بل العقلُ في الرأس؛ فالصوابُ أنَّ مبدأه ومنشأه من القلب، وفروعَه وثمرتَه في الرأس، والقرآنُ قد دلَّ على هذا بقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46]، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، ولم يُرِد بالقلب هنا مُضغةَ اللحم المشتركةَ بين الحيوانات، بل المرادُ ما فيه من العقل واللُّبِّ ونازعهم في ذلك طائفةٌ أخرى، وقالوا: مبدأ هذه الحواسِّ إنما هو الدِّماغ، وأنكروا أن يكون بين القلب والعين والأذن والأنف أعصابٌ أو عُروق، وقالوا: هذا كذبٌ على الخِلْقَة.

والصوابُ التوسُّطُ بين الفريقين، وهو أنَّ القلب ينبعثُ منه قوَّةٌ إلى هذه الحواسِّ، وهي قوَّةٌ معنويةٌ لا تحتاجُ في وصولها إليها إلى مَجَارٍ مخصوصةٍ وأعصابٍ تكونُ حاملةً لها؛ فإنَّ وصول القُوى إلى هذه الحواسِّ والأعضاء لا تتوقَّفُ إلا على قبولها واستعدادها وإمداد القلب، لا على مَجَارٍ وأعصاب.

وبهذا يزولُ الالتباسُ في هذا المقام الذي طال فيه الكلام، وكَثُر فيه النزاعُ والخصام، والله أعلم، وبه التوفيقُ للصَّواب.

والمقصودُ التنبيهُ على أقلِّ القليل من وجوه الحكمة التي في خَلْقِ الإنسان، والأمرُ أضعافُ أضعاف ما يخطرُ بالبال، أو يجري في المقال، وإنما فائدةُ ذكر هذه الشَّذْرَة ــ التي هي كَلا شيءٍ بالنسبة إلى ما وراءها ــ التنبيه.


مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 553 - 577 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله