الْقُرْآن كَلَام الله وَقد تجلى الله فِيهِ لِعِبَادِهِ بصِفَاته:
فَتَارَة يتجلى فِي جِلْبَاب الهيبة وَالْعَظَمَة والجلال: فتخضع الْأَعْنَاق، وتنكسر النُّفُوس، وتخشع الْأَصْوَات، ويذوب الْكبر كَمَا يذوب الْملح فِي المَاء.
وَتارَة يتجلى فِي صِفَات الْجمال والكمال: وَهُوَ كَمَال الْأَسْمَاء، وجمال الصِّفَات، وجمال الْأَفْعَال الدَّال على كَمَال الذَّات، فيستنفد حبه من قلب العَبْد قُوَّة الْحبّ كلهَا بحسب مَا عرفه من صِفَات جماله ونعوت كَمَاله؛ فَيُصْبِح فؤاد عَبده فَارغًا إِلَّا من محبته؛ فَإِذا أَرَادَ مِنْهُ الغِيَر أن يعلق تِلْكَ الْمحبَّة بِهِ؛ أَبى قلبه وأحشاؤه ذَلِك كل الإباء كَمَا قيل:
يُرَاد من الْقلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على النَّاقِل
فَتبقى الْمحبَّة لَهُ طبعا لَا تكلفا.
وَإِذا تجلى بِصِفَات الرَّحْمَة وَالْبر واللطف وَالْإِحْسَان: انبعثت قُوَّة الرَّجَاء من العَبْد، وانبسط أمله، وَقَوي طمعه، وَسَار إِلَى ربه وحادي الرَّجَاء يَحْدُو ركاب سيره، وَكلما قوي الرَّجَاء جد فِي الْعَمَل؛ كَمَا أَن الباذر كلما قوي طمعه فِي الْمَغِلّ غلّق أرضه بالبذر، وَإِذا ضعف رجاؤه قصر فِي الْبذر.
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْعدْل والانتقام وَالْغَضَب والسخط والعقوبة: انقمعت النَّفس الأمارة، وَبَطلَت أَو ضعفت قواها من الشَّهْوَة وَالْغَضَب وَاللَّهْو واللعب والحرص على الْمُحرمَات، وانقبضت أَعِنَّة رعوناتها؛ فأحضرت المطية حظها من الْخَوْف والخشية والحذر.
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْأَمر وَالنَّهْي والعهد وَالْوَصِيَّة وإرسال الرُّسُل وإنزال الْكتب وشَرْعِ الشَّرَائِع: انبعثت مِنْهَا قُوَّة الِامْتِثَال والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لَهَا والتواصي بهَا، وَذكرهَا وتذكّرها، والتصديق بالْخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنَّهْي.
وَإِذا تجلى بِصفة السّمع وَالْبَصَر وَالْعلم: انْبَعَثَ من العَبْد قُوَّة الْحيَاء؛ فيستحي ربه أَن يرَاهُ على مَا يكره، أَو يسمع مِنْهُ مَا يكره، أَو يخفي فِي سَرِيرَته مَا يمقته عَلَيْهِ؛ فَتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشَّرْع، غير مُهْملَة وَلَا مُرْسلَة تَحت حكم الطبيعة والهوى.
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْكِفَايَة والحسب وَالْقِيَام بمصالح الْعباد وسوق أَرْزَاقهم إِلَيْهِم وَدفع المصائب عَنْهُم وَنَصره لأوليائه وحمايته لَهُم ومعيته الْخَاصَّة: لَهُم انبعثت من العَبْد قُوَّة التَّوَكُّل عَلَيْهِ، والتفويض إِلَيْهِ، وَالرِّضَا بِهِ فِي كل مَا يجريه على عَبده ويقيمه مِمَّا يرضى بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ. والتوكل معنى يلتئم من علم العَبْد بكفاية الله وَحسن اخْتِيَاره لعَبْدِهِ، وثقته بِهِ، وَرضَاهُ بِمَا يَفْعَله بِهِ، ويختاره لَهُ.
وَإِذا تجلى بِصِفَات الْعِزّ والكبرياء: أَعْطَتْ نَفسه المطمئنة مَا وصلت إِلَيْهِ من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع الْقلب والجوارح لَهُ؛ فتعلوه السكينَة وَالْوَقار فِي قلبه وَلسَانه وجوارحه وسَمْتِه، وَيذْهب طيشُه وتوقُه وحدَّتُه.
وجماع ذَلِك أَنه سُبْحَانَهُ يتعرف إِلَى العَبْد بِصِفَات إلهيته تارّة وبصفات ربوبيته تَارَة:
فَيُوجب لَهُ شُهُود صِفَات الإلهية الْمحبَّة الْخَاصَّة، والشوق إِلَى لِقَائِه، والأنس والفرح بِهِ، وَالسُّرُور بخدمته، والمنافسة فِي قربه، والتودد إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، واللهج بِذكرِهِ، والفرار من الْخلق إِلَيْهِ، وَيصير هُوَ وَحده همه دون مَا سواهُ.
وَيُوجب لَهُ شُهُود صِفَات الربوبية التَّوَكُّل عَلَيْهِ، والافتقار إِلَيْهِ، والاستعانة بِهِ، والذل والخضوع والانكسار لَهُ.
وَكَمَال ذَلِك: أَن يشْهد ربوبيته فِي إلهيته، وإلهيته فِي ربوبيته، وحمده فِي ملكه، وعزه فِي عَفوه، وحكمته فِي قَضَائِهِ وَقدره، وَنعمته فِي بلائه، وعطاءه فِي مَنعه، وبره ولطفه وإحسانه وَرَحمته فِي قيوميته، وعدله فِي انتقامه، وجُودُه وَكَرمه فِي مغفرته وستره وتجاوزه، وَيشْهد حكمته وَنعمته فِي أمره وَنَهْيه، وعِزّه فِي رِضَاهُ وغضبه، وحلمه فِي إمهاله، وَكَرمه فِي إقباله، وغناه فِي إعراضه.
وَأَنت إِذا تدبرت الْقُرْآن وأجَرتَهُ من التحريف وَأَن تقضي عَلَيْهِ بآراء الْمُتَكَلِّمين وأفكار المتكلفين؛ أشهدك مَلِكَاً قيّوما فَوق سماواته، على عَرْشه، يدبر أَمر عباده، يَأْمر وينهى وَيُرْسل الرُّسُل، وَينزل الْكتب، ويرضى ويغضب، ويُثِيبُ ويعاقب، وَيُعْطِي وَيمْنَع، ويُعزّ ويُذِل، ويخفض وَيرْفَع، يرى من فَوق سبعٍ وَيسمع، وَيعلم السِّرّ وَالْعَلَانِيَة، فعّال لما يُرِيد، مَوْصُوف بِكُل كَمَال، مُنزّه عَن كل عيب، لَا تتحرك ذرّة فَمَا فَوْقهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تسْقط ورقة إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يشفع أحد عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ، لَيْسَ لِعِبَادِهِ من دونه ولي وَلَا شَفِيع.
الفوائد (ص: 69 - 71)