وهل يصلي على آله صلى الله عليه وسلم منفردين عنه؟ فهذه المسألة على نوعين:
أحدهما: أن يُقَال: "اللهم صل على آل محمد" فهذا يجوز، ويكون - صلى الله عليه وسلم - داخلًا في آله، فالإفراد عنه وقع في اللفظ، لا في المعنى.
الثاني: أن يُفْرَد واحد منهم بالذِّكر، فيقال: اللهم صل على عليٍّ، أو على حسنٍ، أو حسينٍ، أو فاطمة رضي الله عنهم، ونحو ذلك. فاخْتُلِف في ذلك، وفي الصلاة على غير آله - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة ومن بعدهم، فكره ذلك مالك رحمه الله، وقال: لم يكن ذلك من عمل من مضى، وهو مذهب أبي حنيفة أيضًا، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثووي، وبه قال طاووس.
وقال ابن عباس: "لا يَنْبغِي الصَّلاة إلَّا على النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -".
قال إسماعيل بن إسحاق: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثني عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه قال: "لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار". وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز.
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا حسين بن علي، عن جعفر بن برقان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: (أما بعد، فإن ناسًا من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة، وإن من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل صلاتهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا جاءك كتابي فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين، ودعاؤهم للمسلمين عامة).
وهذا مذهب أصحاب الشافعي، ولهم ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مَنْع تَحْرِيم.
والثاني: وهو قول الأكثرين؛ أنه مَنْع كراهة تنزيه.
والثالث: أنه من باب ترك الأوْلى وليس بمكروه. حكاها النواوي في "الأذكار" قال: "والصحيح الذي عليه الأكثر أنه مكروه كراهة تنزيه".
ثم اختلفوا في السَّلام هل هو في معنى الصلاة؟ - فيكره أن يُقال: السلام على فلان. أو يُقالُ: فلان عليه السلام -. فكرهه طائفة، منهم أَبو محمد الجويني، ومنع أن يقال: عن علي - عليه السلام - وفرق آخرون بينه وبين الصلاة، فقالوا: السلام يضرع في حق كل مؤمن حي وميت وحاضر وغائب، فإنك تقول: بلغ فلانًا مني السلام، وهو تحية أهل الإسلام، بخلاف الصلاة فإنها من حقوق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآله، ولهذا يقول المصلي: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، ولا يقول: "الصلاة علينا وعلى عباد الله الصالحين" فعلم الفرق.
واحتج هؤلاء بوجوه:
أحدها: قول ابن عباس، وقد تقدم.
الثاني: أن الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله قد صارت شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم، ذكره النووي.
قلت: ومعنى ذلك، أن الرافضة إذا ذَكَرُوا أئمَّتهم يُصلُّون عليهم بأسمائهم، ولا يُصلُّون على غيرهم ممَّن هو خير منهم، وأحبّ إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فينبغي أن يخالفوا في هذا الشِّعَار.
الثالث: ما احتج به مالك رحمه الله؛ أن هذا لم يكن من عمل من مضى من الأُمَّة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
الرابع: أن الصلاة قد صارت مخصوصة في لسان الأمة بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم -، تُذْكَرُ مع ذكر اسمه، كما صار "عزَّ وجلّ" و"سبحانه وتعالى" مخصوصًا بالله عَزَّ وَجَلَّ، يُذْكَرُ مع ذكر اسمه، ولا يَسُوغْ أن يستعمل ذلك لغيره، فلا يقال: محمد عزَّ وجَلّ، ولا سبحانه وتعالى، فلا يُعْطَى المخلوق مرتبة الخالق، فهكذا لا ينبغي أن يعطى غير النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتبته، فيقال: قال فلان - صلى الله عليه وسلم -.
الخامس: أن الله سبحانه قال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، فأمر سبحانه أن لا يُدْعَى باسمه كما يُدْعَى غيره باسمه، فكيف يَسُوغ أن تُجْعَل الصَّلاة عليه كما تُجْعل على غيره في دعائِه، والإخْبارِ عنه؟ هذا مما لا يَسُوغ أصْلًا.
السادس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شَرَع لأُمَّته في التشهد أن يُسلِّموا على عباده الصالحين، ثم يُصَلُّوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلم أن الصلاة عليه حَقَّه الذي لا يُشْرِكه فيه أحد.
السابع: أن الله سبحانه ذَكَرَ الأمر بالصَّلاة عليه في معرض حقوقه وخواصه التي خَصَّه بها من تحريم نكاح أزواجه، وجواز نكاحه لمن وَهَبَتْ نفسها له، وإيجاب اللَّعْنة لمن آذاه، وغير ذلك من حقوقه، وأكدها بالأمر بالصلاة عليه والتسليم، فدلَّ على أن ذلك حق له خاصة، فآله تَبَعٌ له فيه.
الثامن: أن الله سبحانه شرع للمسلمين أن يدعو بعضهم لبعض، ويستغفر بعضهم لبعض، ويترحَّم عليه في حياته وبعد موته، وشرع لنا أن نصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد موته، فالدعاء حقٌ للمسلمين، والصلاة حق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر، ولهذا في صلاة الجنازة إنما يُدْعَى للميت، ويُتَرحَّم عليه ويُسْتَغْفَر له، ولا يُصَلَّى عليه بَدَلَ ذلك، فيقال: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه وسَلِّم.
وفي الصلوات يُصَلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقال بَدَله: اللهم اغفر له وارحمه، ونحو ذلك، بل يُعْطَى كل ذي حقٍّ حقَّه.
التاسع: أن المؤمن أحْوج الناس إلى أن يُدْعى له بالمغفرة والرَّحْمة، والنَّجَاة من العذاب، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فغير محتاج إلى أن يدعى له بذلك، فالصلاة عليه زيادة في تشريف الله له وتكريمه ورفع درجاته، وهذا حاصل له - صلى الله عليه وسلم -، وإن غفل عن ذكره الغافلون، فالأمر بالصلاة عليه إحسان من الله للأمة ورحمة بهم لِيُنيْلهم كرامته بصلاتهم على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف غيره من الأُمَّة؛ فإنه محتاج إلى من يدعو له ويستغفر ويترحَّم عليه، ولهذا جاء الشرع بهذا في مَحَلِّه، وهذا في مَحَلِّه.
العاشر: أنه لو كانت الصلاة على غيره - صلى الله عليه وسلم - سائغة، فإمَّا أن يُقال باختصاصها ببعض الأُمَّة، أو يُقال: تجوز على كلِّ مسلم.
فإن قيل باختصاصها فلا وجه له، وهو تخصيص من غير مُخَصِّص، وإن قيل بعدم الاختصاص وأنها تسوغ لكل من يسوغ الدعاء له؛ فحينئذ تسوغ الصَّلاة على المُسْلِم وإن كان من أهل الكبائر، فكما يقال: اللهم تُبْ عليه، اللهم اغفرْ له، يقال: اللهم صلِّ عليه. وهذا باطل.
وإن قيل: تجوز على الصَّالحين دون غيرهم، فهذا مع أنه لا دليل عليه، ليس له ضابط، فإن كون الرجل صالحًا، أو غير صالح، وصفٌ يَقْبَلُ الزِّيادة والنُّقْصان، وكذلك كونه وَلِيًّا لله، وكونه مُتَّقِيًا، وكونه مؤْمِنًا، وكل ذلك يقبل الزيادة والنقصان، فما ضابط مَنْ يُصلَّى عليه من الأُمَّة ومَنْ لا يُصَلَّى عليه؟.
قالوا: فَعُلِمَ بهذه الوجوه العشرة اختصاص الصلاة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وآله.
وخالفهم في ذلك آخرون، وقالوا: تجوز الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله.
قال القاضي أبو الحسين بن الفراء في "رؤوس مسائله": "وبذلك قال الحسن المصري، وخُصَيْف، ومجاهد، ومُقَاتِل بن سليمان، ومقاتل بن حيَّان، وكثير من أهل التفسير. قال: وهو قول الإمام أحمد رحمه الله، نص عليه في رواية أبي داود؛ وقد سئل: أينبغي أن يصلى على أحد إلَّا على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أليس قال علي لعمر - رضي الله عنهما -: "صلَّى اللهُ عليك".
قال: وبه قال إسحاق بن راهويه، وأَبو ثور، ومحمد بن جرير الطبري، وغيرهم، وحكى أَبو بكر بن أبي داود، عن أبيه ذلك. قال أَبو الحسين: وعلى هذا العمل".
واحتج هؤلاء بوجوه:
أحدها: قوله سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، فأمره سبحانه أن يأخذ الصَّدقة مِن الأُمَّة، وأن يُصَلِّي عليهم. ومعلوم أن الأئمة بعده يأخذون الصدقة كما كان يأخذها، فيشرع لهم أن يُصَلُّوا على المتصدِّق كما كان يصلي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أن في الصحيحين: من حديث شعبة، عن عمرو، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال: "اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ فلان"، فأتاه أبي بصدقته، فقال: "اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبي أوْفى".
والأصل عدم الاختصاص، وهذا ظاهر في أنه هو المراد من الآية.
الثالث: ما رواه حجاج، عن أبي عوانة، عن الأسود بن قيس، عن نُبَيْح العَنَزِيّ، عن جابر بن عبد الله، أن امرأة قالت: يا رسول الله! صل عليَّ وعلى زوْجِي، فقال: "صَلَّى اللهُ عليكِ وعلى زَوْجِك"، رواه أحمد، وأَبو داود في "السنن".
الرابع: ما رواه ابن سعد في كتاب "الطبقات": من حديث ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله؛ أن عليًّا دخل على عمر وهو مسجَّى؛ فلما انتهى إليه قال: "صلى الله عليك، ما أحد ألقى الله بصحيفته أحبّ إليَّ من هذا المسجَّى بينكم".
الخامس: ما رواه إسماعيل بن إسحاق: حدثنا عبد الله بن مسلم، حدثنا نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ، عن نافع، عن ابن عمر؛ أنه كان يكبر على الجنازة، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول: "اللهُمّ بَارِكْ فِيْه، وصَلِّ عَلَيْه، واغفرْ له، وأورِدْه حوضَ نَبِيِّك - صلى الله عليه وسلم -".
السادس: أن الصلاة هي الدعاء، وقد أُمِرْنا بالدعاء بَعْضُنا لبعض. احتجَّ بهذه الحجة أَبو الحسين.
السابع: ما رواه مسلم في "صحيحه": من حديث حماد بن زيد، عن بُدَيْل، عن عبد الله بن شَقِيْق، عن أبي هريرة، قال: "إِذَا خَرَجَتْ رُوْحُ المُؤمِنِ تَلَقَّاهَا مَلَكانِ يُصْعِدَانِها - قال حمَّاد: فَذَكَر مِن طِيْب رِيْحِها، وَذَكَر المِسْك - قال: ويقولُ أهلُ السَّماءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ جاءَتْ مِن قِبَلِ الأرْضِ صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ، وعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِيْنَه .. وذكر الحديث. هكذا قال مسلم عن أبي هريرة موقوفًا، وسياقه يدل على أنه مرفوع، فإنه قال بعده: وإنَّ الكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوْحُه - قال حماد: (وذكر من نتنها وذكر لعنًا) - ويقولُ أهلُ السَّماءِ: رُوْحٌ خَبيْثَةٌ جاءَتْ مِن قِبَلِ الأرْض. قال: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا به إلى آخِرِ الأجَلَ. قال أَبو هريرة: فَرَدَّ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْه عَلَى أنْفِهِ، هكذا".
وهذا يدلُّ على أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثهم بالحديث.
وقد رواه جماعة عن أبي هريرة مرفوعًا، منهم أَبو سلمة، وعمر بن الحكم، وإسماعيل السدي، عن أبيه، عن أبي هريرة، وسعيد بن يسار، وغيرهم.
وقد استوفيت الكلام على هذا الحديث وأمثاله في كتاب "الروح".
قالوا: فإذا كانت الملائكة تقول للمؤمن: "صلى الله عليك" جاز ذلك أيضًا للمؤمنين، بعضهم لبعض.
الثامن: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير"، وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43].
التاسع: ما رواه أَبو داود: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف".
وفي حديث آخر عنها؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف". وقد تقدم في أول الكتاب صلاة الملائكة على من صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
العاشر: ما احْتجَّ به القاضي أَبو يعلى، ورواه بإسناده من حديث مالك بن يَخَامِر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلًا؛ أنه قال: "اللهم صل على أبي بكر، فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عمر، فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عثمان، فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عليّ، فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على أبي عبيدة، فإنه يحب الله ورسوله، اللهم صل على عمرو بن العاص، فإنه يحب الله ورسوله".
الحادي عشر: ما رواه يحيى بن يحيى في "موطئه" عن مالك، عن عبد الله بن دينار، قال: "رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما". هذا لفظ يحيى بن يحيى.
الثاني عشر: أنه قد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على أزواجه في الصلاة، وقد تقدم.
قالوا: وهذا على أصولكم ألزم، فإنكم لمْ تُدخلوهنَّ في آله الذين تحْرُم عليهم الصَّدقة؛ فإذا جازت الصلاة عليهِنَّ، جازت على غيرهنَّ من الصحابة رضي الله عنهم.
الثالث عشر: أنكم قد قلتم بجواز الصَّلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعًا له، فقلتم بجواز أن يقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وعلى أصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه.
قال أَبو زكريا النووي: "واتفقوا على جواز جعل غير الأنبياء تبعًا لهم في الصلاة - ثم ذكر هذه الكيفية وقال - للأحاديث الصحيحة في ذلك، وقد أُمِرْنا به في التشهد، ولم يزل السَّلَف عليه خارج الصلاة أيضًا".
قلت: ومنه الأثر المعروف عن بعض السلف: (اللهم صل على ملائكتك المقربين وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين من أهل السماوات والأرضين).
الرابع عشر: ما رواه أَبو يعلى الموصلي: عن ابن زنجويه، حدثنا أَبو المغيرة، حدثنا أَبو بكر بن أبي مريم، حدثنا ضمرة بن حبيب بن صهيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابت؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه وعلمه دعاء، وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، قال: "قل حين تصبح: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، والخير في يديك ومنك وإليك، اللهم ما قلت من قول أو نذرت من نذرٍ، أو حلفت من حلف فمشيئتك بين يديه، ما شئت منه كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، أنت على كل شيء قدير، اللهم وما صليت من صلاة فعلى من صليت، وما لعنت من لعن فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلمًا وألحقني بالصالحين".
ووجه الاستدلال: أنه لو لم تشرع الصَّلاة على غير النَّبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ما صحَّ الاستثناء فيها، فإن العبد لما كان يصلي على من ليس بأهل للصلاة ولا يدري = استثنى من ذلك كما استثنى في حَلِفِه ونَذْرِه.
قال الأولون: الجواب عما ذكرتم من الأدلة، أنها نوعان: نوع منها صحيح، وهو غير متناول لمحل النِّزاع، فلا يحتجُّ به. ونوع غير معلوم الصِّحَّة. فلا يحتجُّ به أيضًا، وهذا إنما يظهر بالكلام على كلِّ دليلٍ دليل.
أما الدليل الأول: وهو قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} فهذا في غير محل النزاع، لأن كلامنا هل يسوغ لأحدنا أن يصلي على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله أم لا؟.
وأما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على من صلى عليه؛ فتلك مسألة أخرى، فأين هذه من صلاتنا عليه التي أمرنا بها قضاء لحقه، هل يجوز أن يشرك معه غيره فيها أم لا؟.
يُؤكِّده الوجه الثاني: أن الصلاة عليه حق له - صلى الله عليه وسلم -، يتعيَّن على الأُمَّة أداؤه والقيام به، وأما هو - صلى الله عليه وسلم - فيخُصُّ مَن أراد ببعض ذلك الحقّ، وهذا كما تقول في شاتمه ومؤذيه: إنَّ قتله حق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب على الأُمَّة القيام به واستيفاؤه، وإن كان - صلى الله عليه وسلم - يعفو عنه، حتى كان يبلغه ويقول: "رَحِمَ اللهُ مُوسَى لَقَدْ أوْذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَر".
وبهذا حصل الجواب عن الدليل الثاني أيضًا، وهو قوله:
"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أبِي أوْفَى"، وعن الدليل الثالث أيضا وهو صلاته على تلك المرأة وزوجها.
وأما دليلكم الرابع: وهو قولُ عليٍّ لعمر - رضي الله عنهما-: "صلى الله عليك". فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه قد اخْتُلِف على جعفر بن محمد في هذا الحديث.
فقال أَنس بن عياض: عن جعْفر بن محمد، عن أبيه، أن عليًّا - لمَّا غَسَّل عمر وكفن وحمل على سريره – وقف عليه، فأثنى عليه، وقال: "والله ما على الأرض رجل أحب إليَّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بالثوب".
وكذلك رواه محمد ويعلى ابنا عبيد، عن حجاج الواسطي، عن أبي جعفر، ولم يذكرا هذه اللفظة. ورواه ورقاء بن عمر، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، عن علي، ولم يذكر لفظة الصلاة، وكذلك رواه سليمان بن بلال عن جعفر عن أبيه. وكذلك رواه يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن جعفر عن أبيه. وكذلك رواه عون بن أبي جُحَيْفة عن أبيه، قال: كنت عند عمر وقد سُجِّي؛ فذكره دون لفظ الصلاة، بل قال: "رحمك الله"، وكذلك رواه عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن أيوب، وعمرو بن دينار، وأبي جهضم، قالوا: لما مات عمر فذكروا الحديث دون لفظ الصلاة، وكذلك رواه قيس بن الربيع، عن قيس بن مسلم، عن ابن الحنفِيَّة.
الثاني: أن الحديث الذي فيه الصلاة لم يسنده ابن سعد قال في الطبقات:
أخبرنا بعض أصحابنا: عن سفيان بن عيينة؛ أنه سمع منه هذا الحديث عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، فذكره، وقال: لما انتهى إليه، فقال له: "صلى الله عليك".
وهذا المبهم لعله لم يحفظه، فلا يحتجُّ به.
الثالث: أنه معارض بقول ابن عباس رضي الله عنهما: "لا ينبغي الصَّلاة عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -". وقد تقدم.
قالوا: وأما دليلكم الخامس وهو قول ابن عمر في صلاة الجنازة: "اللهم صل عليه"، فجوابه من وجوه:
أحدها: أن نافع بن أبي نُعَيْم ضعيف عندهم في الحديث، وإن كان في القراءة إمامًا، قال الإمام أحمد: "يؤخذ عنه القرآن، وليس في الحديث بشيء".
والذي يدلُّ على أن هذا ليس بمحفوظ عن ابن عمر، أن مالكًا في "موطئه" لم يروه عن ابن عمر، وإنما روى أثرًا عن أبي هريرة، فلو كان هذا عند نافع مولاه، لكان مالك أعلم به من نافع بن أبي نُعَيْم.
الثاني: أن قول ابن عباس يعارِضُ ما نُقِلَ عن ابن عمر.
وأما دليلكم السادس أن الصلاة دعاء، وهو مشروع لكل مسلم، فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه دعاء مخْصوص، مأمور به في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لا يدلُّ على جَوَازِ أن يُدْعى به لغيره، لما ذكرنا من الفروق بين الدعاء وغيره، مع الفرق العظيم بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره، فلا يصحُّ الإلْحَاق، لا في الدعاء، ولا في المدعو له - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: أنه كما لا يصحُّ أنْ يُقاس عليه دعاء غيره، لا يصح أن يقاس على الرسول - صلى الله عليه وسلم - غيره فيه.
الثالث: أنه ما شُرِع في حقِّ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - لكونه دعاء، بل لأخصّ من مُطْلَق الدعاء، وهو كونه صلاةً متضمنةً لتعظيمِهِ وتمجيدِهِ والثَّنَاءِ عليه كما تقدَّم تقريره، وهذا أخصُّ من مطلق الدعاء.
وأما دليلكم السابع: وهو قول الملائكة لروح المؤمن: "صَلّى اللهُ عَلَيْكِ وعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِيْنَه". فليس بمتناول لمحل النزاع، فإن النزاع إنما هو هل يسوغ لأحدنا أن يصلي على غير الرسول وآله - صلى الله عليه وسلم -؟ وأما الملائكة فليسوا بداخلين تحت أحكام تكاليف البَشَر حتى يصحَّ قياسهم عليه فيما يقولونه أو يفعلونه، فأين أحكام المَلَك من أحكام البشر؟ فالملائكة رسل الله في خلقه وأمره، يتصرفون بأمره، لا بأمر البشر، وبهذا خرج الجواب عن كل دليل فيه صلاة الملائكة.
وأما قولكم: "إن الله يصلي على المؤمنين وعلى معلم الناس الخير".
فجوابه: أنه في غير محل النزاع، وكيف يصح قياس فعل العبد على فعل الرب سبحانه وتعالى؟ وصلاة العبد دعاء وطلب، وصلاة الله على عبده ليست دعاء، وإنما هي إكرام وتعظيم ومحبة وثناء، وأين هذا من صلاة العبد؟.
وأما دليلكم العاشر: وهو حديث مالك بن يخامر، وفيه صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي بكر وعمر ومن معهما.
فجوابه من وجوه:
أحدها: أنه لا علم لنا بصحة هذا الحديث، ولم تذكروا إسناده لننظر فيه.
الثاني: أنه مرسل.
الثالث: أنه في غير محل النزاع، كما تقدم.
وأما دليلكم الحادي عشر: "أن ابن عمر كان يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي عليه، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما".
فجوابه من وجوه:
أحدها: أن ابن عبد البر قال: "أنكر العلماء على يحيى بن يحيى ومن تابعه في الرواية عن مالك، عن عبد الله بن دينار: "رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر"، وقالوا: إنما الرواية لمالك وغيره، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أنه كان يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو لأبي بكر وعمر). كذلك رواه ابن القاسم والقعنبي، وابن بُكَيْر وغيرهم عن مالك، ففَرَّقُوا بما وصفت لك بين: "ويدعو لأبي بكر، وعمر" وبين "يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -"، وإن كانت الصلاة قد تكون دعاء، لما خص به - صلى الله عليه وسلم - من لفظ الصلاة".
قلت: وكذلك هو في "موطأ ابن وهب" لفظ الصلاة مختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء لصاحبيه.
الثاني: أن هذا من باب الاستغناء عن أحد الفعلين بالأول منهما، وإن كان غير واقع على الثاني، كقول الشاعر:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا ومَاءً بَارِدًا … حتَّى غَدَتْ هَمَّالة عَيْنَاهَا
وقول الآخر:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا … مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا
وقول الآخر:
وَزَجَّجْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا
فلما كان الفعل الأول موافقًا للفعل الثاني في الجنس العام اكتفى به منه، لأن العلف موافق للسقي في التغذية، وتقلد السيف موافق لحمل الرمح في معنى الحمل، وتزجيج الحواجب موافق لكحل العيون في الزينة، وهكذا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - موافقة للدعاء لأبي بكر وعمر في معنى الدعاء والطلب.
الثالث: أن ابن عباس رضي الله عنهما قد خالفه كما تقدم.
وأما دليلكم الثاني عشر: بالصلاة على أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، ففاسد، لأنه إنما صلى عليهن لإضافتهنَّ إليه، ودخولهنَّ في آله وأهل بيته، فهذه خاصَّة له، وأهل بيته وزوجاته تبع له فيها - صلى الله عليه وسلم -.
وأما قولكم: إنه ألزم على أصولنا، فإنا لا نقول بتحريم الصدقة عليهنَّ. فجوابه: أن هذا وإن سُلِّم دل على أنهن لسن من الآل اللذين تحرم عليهم الصدقة، لعدم القرابة التي يثبت بها التحريم، لكنهن من أهل بيته الذين يستحقون الصلاة عليهم، ولا منافاة بين الأمرين.
وأما دليلكم الثالث عشر: وهو جواز الصلاة على غيره - صلى الله عليه وسلم - تبعًا، وحكايتكم الاتفاق على ذلك، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذا الاتفاق غير معلوم الصحة، والذين منعوا الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منعوها مفردة وتابعة، وهذا التفصيل وإن كان معروفًا عن بعضهم فليس كلهم يقوله.
الثاني: أنه لا يلزم من جواز الصلاة على أتباعه تبعًا للصلاة عليه جواز إفراد المعين أو غيره بالصلاة عليه استقلالًا.
وقوله: للأحاديث الصحيحة في ذلك. فليس في الأحاديث الصحيحة الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله وأزواجه وذريته، ليس فيها ذكر أصحابه ولا أتباعه في الصلاة.
وقوله: أمرنا بها في التشهد. فالمأمور به في التشهد الصلاة على آله وأزواجه، لا غيرهما.
وأما دليلكم الرابع عشر: وهو حديث زيد بن ثابت الذي فيه: "اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت".
ففيه أَبو بكر بن أبي مريم ضعفه أحمد، وابن معين، وأَبو حاتم، والنسائي، والسعدي، وقال ابن حبان: "كان من خيار أهل الشام، ولكنه كان رديء الحفظ يحدث بالشيء فَيَهِم، وكثر ذلك حتى استحق الترك".
وفصل الخطاب في هذه المسألة:.
أن الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم -:
إما أن يكون على آله وأزواجه وذريته أو غيرهم، فإن كان الأول فالصلاة عليهم مشروعة مع الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وجائزة مفردة.
وأما الثاني: فإن كان الملائكة وأهل الطاعة عمومًا الذين يدخل فيهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم، جاز ذلك أيضًا، فيقال: اللهم صل على ملائكتك المقربين وأهل طاعتك أجمعين.
وإن كان شخصًا معينًا أو طائفة معينة كُرِهَ أن يتخذ الصلاة عليه شعارًا لا يخل به، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه، ولاسيما إذا جعلها شعارًا له، ومنع منها نظيره، أو من هو خير منه، وهذا كما تفعل الرافضة بعليّ رضي الله عنه، فإنهم حيث ذكروه قالوا: عليه الصلاة والسلام، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه، فهذا ممنوع منه، ولاسيما إذا اتخذ شعارًا، لا يُخِلُّ به، فَتَرْكُهُ حينئذ متعيِّن. وأما إن صلى عليه أحيانًا، بحيث لا يجعل ذلك شعارًا، كما يُصلَّى على دافع الزكاة، وكما قال ابن عمر للميت: "صلى الله عليك". وكما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على المرأة وزوجها، وكما روي عن علي من صلاته على عمر، فهذا لا بأس به.
وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وينكشف وجه الصواب. والله الموفق وإليه المرجع والمآب.
جلاء الأفهام - ط عطاءات العلم (1/ 547 - 575)