فائدة حول نسبة الحسنات لله تعالى والمصائب للنفس وكلاهما مقدّر

قال القدري: إذا كانت الطاعات والمعاصي مقدّرة، والنعم والمصائب مقدّرة؛ فلِمَ فرّق سبحانه بين الحسنات التي هي النعم، والسيئات التي هي المصائب، فجعل هذه منه سبحانه، وهذه من نفس الإنسان، والجميع مقدَّر؟.

قال السني: بينهما فروق:

الفرق الأول: أن نعم الله وإحسانه إلى عباده يقع بلا كسب منهم أصلًا، بل الرب تعالى يُنعِم عليهم بالعافية والرزق والنصر وإرسال الرسل وإنزال الكتب وأسباب الهداية، فيفعل ذلك بمن لم يكن منه سبب يقتضيه، ويُنشِئ للجنة في الآخرة خلقًا يُسكنهم إيّاها بغير سبب منهم، ويُدخِل أطفال المؤمنين ومجانينهم الجنة بلا عمل، وأما العقاب فلا يعاقِب أحدًا إلا بعمله.

الفرق الثاني: أن عمل الحسنات من إحسان الله ومنّه، وتفضّله عليه بالهداية والإيمان، كما قال أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، فخلْقُ الربّ تعالى لهم الحياةَ والسمعَ والبصرَ والعقولَ والأفئدةَ، وإرسالَ الرسل، وتبليغَهم البلاغ الذي اهتدوا به، وإلهامَهم الإيمان، وتحبيبَه إليهم، وتزيينَه في قلوبهم، وتكريهَ ضده إليهم= كلُّ ذلك من نعمه، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8].

فجميع ما يتقلّب فيه العالم من خير الدنيا والآخرة هو نعمة محضة بلا سبب سابق يوجب ذلك لهم، ومن غير حول ولا قوة منهم إلا به، وهو خالق نفوسهم، وخالق أعمالها الصالحة، وخالق جزائها، وهذا كله منه سبحانه، بخلاف الشر؛ فإنه لا يكون إلا بذنوب العبد، وذنبُهُ من نفسه.

وإذا تدبر العبد هذا علم أن ما هو فيه من الحسنات من فضل الله؛ فشكر ربّه على ذلك؛ فزاده من فضله عملًا صالحًا، ونعمًا يفيضها عليه، وإذا علم أن الشر لا يحصل له إلا من نفسه وبذنوبه استغفر ربّه وتاب، فزال عنه سبب الشر، فيكون دائمًا شاكرًا مستغفرًا، فلا يزال الخير يتضاعف له، والشر يندفع عنه.

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «الحمد لله» فيشكر الله، ثم يقول: «نستعينه ونستغفره» نستعينه على طاعته، ونستغفره من معصيته، ونحمده على فضله وإحسانه، ثم قال: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» لمّا استغفره من الذنوب الماضية استعاذ به من الذنوب التي لم تقع بعد، ثم قال: «ومن سيئات أعمالنا» فهذه استعاذة من عقوبتها كما تقدم، ثم قال: «من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له» فهذه شهادة للربّ تعالى بأنه المتصرّف في خلقه بمشيئته وقدرته وحكمته وعلمه، وأنه يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، فإذا هدى عبدًا لم يضله أحد، وإذا أضله لم يهده أحد، وفي ذلك إثبات ربوبيته وقدرته، وعلمه، وحكمته، وقضائه، وقدره الذي هو عقد نظام التوحيد وأساسه، وكل هذا مقدمة بين يدي قوله: «وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، فإن الشهادتين إنما تتحقق بحمد الله، واستعانته، واستغفاره، واللجأ إليه، والإيمان بأقداره.

والمقصود: أنه سبحانه فرّق بين الحسنات والسيئات بعد أن جمع بينهما في قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، فجمع بينهما الجمع الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو اجتماعهما في قضائه وقدره ومشيئته وخلقه، ثم فرق بينهما الفرق الذي ينتفعون به، وهو أن هذا الخير والحسنة نعمة منه، فاشكروه عليه يزدكم من فضله ونعمه، وهذا الشر والسيئة بذنوبكم، فاستغفروه يرفعه عنكم، وأصله من شرور أنفسكم، فاستعيذوا به يخلصكم منها، ولا يتم ذلك إلا بالإيمان بأنه وحده هو الذي يهدي ويضل، وهو الإيمان بالقدر، فادخلوا عليه من بابه؛ فإن أزمّة الأمور بيديه، فإذا فعلتم ذلك صدَق منكم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

فهذه الخطبة العظيمة عقد نظام الإسلام والإيمان، فلو اقتصر لهم على الجمع دون الفرق أعرض العاصي والمذنب عن ذم نفسه والتوبة من ذنوبه، والاستعاذة من شرها، وقام في قلبه شاهد الاحتجاج على ربّه بالقدر، وتلك حجة داحضة تبع الأشقياء فيها إبليس، وهي لا تزيد صاحبها إلا شقاء وعذابًا، كما زادت إبليس بُعدًا وطردًا عن ربّه، وكما زادت المشركين ضلالًا وشقاء حتى قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]، وكما تزيد الذي يقول يوم القيامة: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر: 57] حسرةً وعذابًا.

ولو اقتصر لهم على الفرق دون الجمع لغابوا به عن التوحيد والإيمان بالقدر، واللّجَأ إلى الله في الهداية والتوفيق، والاستعاذة به من شرّ النفس وسيئات العمل، والافتقار التام إلى إعانته وفضله، فكان في الجمع والفرق بيان حق العبودية، وسيأتي تمام الكلام على هذا الموضع العظيم القدر ــ إن شاء الله ــ في باب اجتماع القدر والشرع وافتراقهما.

الفرق الثالث: أن الحسنة يضاعفها الله سبحانه وينمّيها، ويكتبها للعبد بأدنى سعي، ويثيب على الهمّ بها، والسيئة لا يؤاخذ على الهمّ بها، ولا يضاعفها، ويبطلها بالتوبة، والحسنة الماحية، والمصائب المكفّرة، فكانت الحسنة أولى بالإضافة إليه، والسيئة أولى بالإضافة إلى النفس.

الفرق الرابع: أن الحسنة التي هي الطاعة والنعمة يحبها ويرضاها، فهو سبحانه يحب أن يطاع، ويحب أن يُنعِم ويُحسِن ويجود، وإنْ قدّر المعصية وأراد المنع، فالطاعة أحب إليه، والبذل والعطاء آثر عنده، فكان إضافة نوعي الحسنة إليه، وإضافة نوعي السيئة إلى النفس أولى.

ولهذا تأدّب العارفون من عباد الله بهذا الأدب، فأضافوا إليه النعم والخيرات، وأضافوا الشرور إلى محلها، كما قال إمام الحنفاء: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهْوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهْوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78 - 80]، فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه، وقال الخضر: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف: 79]، ثم قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} [الكهف: 82]، وقال مؤمنو الجن: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10].

الفرق الخامس: أن الحسنة مضافة إليه لأنه أحسن بها من كل وجه وبكل اعتبار كما تقدم، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه، وأما السيئة فهو سبحانه إنما قدرها وقضاها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه، فإن الربّ تعالى لا يفعل سوءًا قط، كما لا يوصَف به، ولا يُسمَّى باسمه، بل فِعْله كله حُسْن وخير وحكمة ومصلحة، كما قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26]، وقال أعرف الخلق به: «والشر ليس إليك»، فهو لا يخلق شرًّا محضًا من كل وجه، بل كل ما خلقه ففي خلقه مصلحة وحكمة، وإن كان في بعضه شرٌّ جزئي إضافي، وأما الشرّ الكلي المطلق من كل وجه فهو تعالى منزّه عنه، وليس إليه.

الفرق السادس: أن ما يحصل للإنسان من الحسنات التي يعملها فهي أمور وجودية متعلقة بمشيئة الربّ وقدرته ورحمته وحكمته، وليست أمورًا عدمية تضاف إلى غير الله، بل هي كلها أمور وجودية، وكل موجود حادث فالله مُحْدِثُهُ وخالقه.

وذلك أن الحسنات إما فعْل مأمور، أو ترْك محظور، والترك أمر وجودي، فترْك الإنسان لما نُهِي عنه، ومعرفته بأنه ذنب قبيح، وبأنه سبب العذاب، وبغضه له، وكراهته له، ومنْع نفسه إذا هويته وطلبته منه= أمور وجودية، كما أن معرفته بأن الحسنات ـ كالعدل والصدق ـ حسنة، وفعله لها أمر وجودي.

والإنسان إنما يثاب على ترك السيئات إذا تركها على وجه الكراهة لها، والامتناع منها، وكفّ النفس عنها، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهوى} [النازعات: 40]، وقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

وفي «الصحيحين» عنه صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومَن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلْقى في النار».

وقد جعل صلى الله عليه وسلم البغض في الله من أوثق عرى الإيمان، وهو أصل الترك، وجعل المنع لله من كمال الإيمان، وهو أصل الترك، فقال: «مِنْ أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله».

وقال: «مَنْ أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان».

وجعل إنكار المنكر بالقلب من مراتب الإيمان، وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه، فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله.

وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبوديهم ليست تركًا محضًا، بل تركًا صادرًا عن بغض ومعاداة وكراهة، وهي أمور وجودية هي عبودية للقلب، يترتب عليها خلو الجوارح من العمل، كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة هي عبودية للقلب، تترتب عليها آثارها في الجوارح.

وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وهو إثبات تألّه القلب لله ومحبته، ونفي تألّهه لغيره وكراهته، فلا يكفي أن يعبد الله، ويحبّه، ويتوكل عليه، وينيب إليه، ويخافه، ويرجوه= حتى يترك عبادة غيره، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وخوفه، ورجاءه، ويبغض ذلك.

فهذه كلها أمور وجودية، وهي الحسنات التي يثيب الله عليها.

وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة، ولا يكرهها بقلبه، ويكف نفسه عنها، بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه، فلا يثاب على هذا الترك، فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم، لكن قد يثاب على اعتقاده تحريمها، وإن لم يكن له إليها داعية البتّة.

فالترك ثلاثة أقسام: قسم يثاب عليه، وقسم يعاقَب عليه، وقسم لا يثاب ولا يعاقَب.

فالأول: ترك العالم بتحريمها، الكافّ نفسه عنها لله، مع قدرته عليها.

والثاني: كترك مَن يتركها لغير الله لا لله، فهذا يعاقَب على تركه لغير الله، كما يعاقَب على فعله لغير الله؛ فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب، فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة.

والثالث: كترك من لم يخطر على قلبه علمًا ولا محبة ولا كراهة، بل بمنزلة ترك النائم والطفل.


شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (2/ 48 - 54)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله