قصد المؤلف بكتابه ــ كما هو ظاهر من عنوانه ــ جمع ما تفرق من مسائل القضاء والقدر، وما اتصل بها من مباحث حكمة الباري وتعليل أفعاله سبحانه، وبيان المذهب الحق في كل ذلك.
فاستهل كتابه بخطبة أبان فيها عن موضع الإيمان بالقضاء والقدر من الدين، وخطورة الانحراف عنه، مع إلماحة إلى نشأة الكلام في القدر، ومذاهب الناس فيه، واتساع الخلف بينهم، بين غال في النفي وزائغ في الإثبات، خلا من اقتبس من مشكاة الوحيين وسلك طريق الأصحاب، ومن صلح من أسلافهم.
ليعرض بعدها إلى بواعث التأليف في الباب، والضرورة التي ألجأته إلى الخوض في هذا الميدان، في ثلاثين بابا سرد عنواناتها تامة في هذه الخطبة.
وهذه الأبواب مختلفة في الطول والقصر، فبعضها لا يتجاوز الصفحتين كما تراه في الباب الخامس، وبعضها تربو على المائة كما في الباب الخامس عشر.
وقد خصص المؤلف الأبواب: الأول، والثاني، والرابع، والخامس، والسادس؛ في ذكر أنواع التقدير الإلهي، مفردا كل نوع بباب مستقل، مستقصيا ما جاء في هذا التقدير من أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة، تارة يسوقها بإسنادها من مصادرها، وأخرى دون إسناد، مع حرصه الشديد على تتبع الألفاظ وتحريرها وإزالة التعارض بينها، وتوضيح وجه الدلالة منها، وربما تكلم في طرقها تصحيحا وتضعيفا.
وقام بين ذلك بإفراد الباب الثالث في ذكر مرويات المحاجة المشهورة في القدر بين آدم وموسى عليهما السلام، وبيان اختلاف الناس في فهم الحديث وأوجه تفسيره، واستطرد في الدفاع عن صاحب "منازل السائرين" في كلام له موهم لباطل.
وفي الباب السابع ناقش المصنف أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال، بل يقتضي الاجتهاد والحرص.
ودار الكلام في الباب الثامن حول تفسير قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم} [الأنبياء: 98]، وفي التاسع حول قوله سبحانه: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]، وما يتعلق بهما من فوائد واستنباطات.
ثم أعاد الحديث مرة أخرى في الأبواب: العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، في مراتب القضاء والقدر، واستقصاء ما جاء فيها من حجج نقلية ــ لم يسبق له إيرادها فيما تقدم من أبواب ــ وبراهين عقلية، وأرخى للقلم العنان في البحث والمناقشة.
ففي العاشر بسط النقاش في المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها، والمرويات في ذلك، ولم يخل من استطراد في رد بعض شبه القدرية، والحديث عن حكمة الله سبحانه ومظاهر لطفه وفوائد وثمرات ابتلائه أحباءه.
وفي الباب الذي يليه ساق بعض ما فاته من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة في المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة وأما الباب الثاني عشر في المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر ــ وهي مرتبة المشيئة والإرادة ــ فقد حشد فيه رحمة الله عليه ما أمكنه من الآيات والأحاديث الدالة على هذه المرتبة بأصنافها وألفاظها، ثم عقد فصلا بحث فيه علاقة المشيئة والإرادة بمحبة الله وأوامره.
وختم تلك المراتب في الباب الثالث عشر بذكر مرتبة خلق الله سبحانه الأعمال وتكوينه وإيجاده لها، وأطال النفس في تفنيد بعض أصول الأشاعرة وغيرهم في مسائل الجبر وتأثير القدرة وفروعها، والخلق والاختراع وذيولها، وبيان هدي القرآن والسنة فيها، وإيضاح سبيل المؤمنين، وقاده المقام للغوص في أسرار سورة الفاتحة المتعلقة بهذه المسائل العقدية.
ثم استكمل في الباب الرابع عشر مباحث الهدى والضلال ومراتبهما، وهذا الباب وصفه المصنف بقوله: "هو قلب أبواب القدر ومسائله"، وعرض فيه مراتب الهدى والضلال في القرآن، كل مرتبة منها في فصل مستقل أشبع فيه الحديث حولها، واستطرد طويلا في مرتبة التقدير والهداية بذكر نماذج من هداية الله تعالى لبعض المخلوقات كالنحلة والنملة والهدهد وغيرها، ثم استطرد مرة أخرى في المرتبة الثالثة من الهداية: هداية التوفيق والإلهام في توضيح جناية التأويل الفاسد على نصوص الوحيين لدى القدرية والجبرية.
وجمع المؤلف في الباب الخامس عشر الآيات الواردة في الطبع والختم والقفل ونحوها على وجه التفصيل، ثم ذكر أوجه ضلال القدرية والجبرية في تحريف هذه الآيات، وأطال النفس في الرد عليها آية آية، وهذا من أطول أبواب الكتاب.
وفي الباب السادس عشر استقصى ما جاء في السنة النبوية من تفرد الرب تعالى بخلق أعمال العباد، فجمع أحاديث الباب وتكلم عليها وعلى معانيها، ثم عرض للكلام على التوبة والاستغفار، وفقر العباد إلى الجبار.
ومع أن المؤلف ناقش طرفا من مذهب الأشاعرة في الكسب والجبر ضمن مباحث الباب الثالث عشر عرضا؛ إلا أنه أعاد وأفرد هذه المباحث ومتعلقاتها في البابين: السابع عشر والثامن عشر بمزيد عناية وتفصيل، ذكر خلاله ما وقع بين الأشاعرة من خلاف واضطراب في مسائل القدر، ونقل فيه عن كبار محققيهم، ثم ناقش مفردات الباب كلمة كلمة: فعل وأفعل، والفعل والانفعال، وبين ضلال الطائفتين: القدرية والجبرية، وختم الباب باستطراد في مسألة طلاق السكران والغضبان.
ثم ساق المصنف في البابين: التاسع عشر والعشرين مناظرة مفترضة في مهمات مسائل القدر بين جبري وسني في الباب الأول منهما، وفي الثاني بين بين قدري وسني ناقش فيها أنواع التعطيل وآثاره، ومباحث التسلسل وأنواعه ولوازمه، وأعاد البحث مع القدرية والجبرية في مسائل المشيئة والإرادة والأسباب والحكمة والتعليل.
وفي الباب الحادي والعشرين عرض للعلاقة بين القدر ووقوع الشر في الكون، وأجاب عما أشكل ودق من أسئلة الباب، بعد أن أصل القواعد، وشيد أركان مذهب أهل السنة والجماعة في الحكمة والتعليل.
ولم يكتف ابن قيم الجوزية رحمه الله بما سلف في هذا المبحث ــ أعني الحكمة والتعليل ــ بل عقد بابين كاملين بعد ذلك من أجلهما، استوعب في أحدهما نصوص الوحيين في اثنين وعشرين نوعا، كل نوع في فصل مستقل، وخصص الآخر لاستيفاء شبه النافين، وذكر الأجوبة عنها في عدة فصول وعشرات الأوجه، وحسبك أنه أجاب عن الحكمة في خلق الكفر والفسوق ونحوها من الشرور في أربعين وجها، ضمن أحدها ما في الصلاة من حكم العبودية ومنازلها، وأورد في آخر شيئا من أسرار الكون وغايات خلقه في المجرات والأفلاك، وعقد فصلا مطولا في المسألة الشهيرة: فناء الجنة والنار.
وهذا الباب الثالث والعشرون يعد أطول أبواب الكتاب، وقد استغرق نحوا من مائة وثمانين صفحة من المطبوع.
وفي الباب الرابع والعشرين ــ وهو من أوجز الأبواب ــ بحث معنى قول السلف: "من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره"، وجل مسائله مما تقدمت مناقشته في الباب السابق.
وقريب منه في الإيجاز الباب الذي يليه: في امتناع إطلاق القول نفيا وإثباتا: "إن الرب تعالى مريد للشر وفاعل له"، حيث أعاد المؤلف كثيرا مما تقدم بسطه في الكتاب، كالكلام على المحبة والإرادة وأنواعهما.
وكذلك أوجز الحديث في البابين السادس والعشرين والسابع والعشرين، فشرح في الأول منهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك"، وفي الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ماض في حكمك، عدل في قضاؤك"، وذكر ما تضمنه كل منهما من قواعد وفوائد ولطائف.
أما البابان: الثامن والعشرون والتاسع والعشرون فقد عرض فيهما المصنف أحكام الرضا بالقضاء، واختلاف الناس في ذلك، وتحقيق القول فيه، وانقسام القضاء والحكم ونحوهما إلى كوني وديني، دون إسهاب.
ثم كانت خاتمة أبواب الكتاب الثلاثين بالحديث عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والخلاف في المراد بها، وشرح حديث: "كل مولود يولد على الفطرة" وتتبع ألفاظه بتوسع.
مقدمة التحقيق - ط عطاءات العلم (ص: 14 - 19)