نظرة على مؤلّفات الإمام ابن القيم

*عبد العزيز كحيل 

الإمام ابن القيم من أعلام الأمّة الّذين كتب الله لهم القبول جيلاً بعد جيل، فلا تكاد تجد كتاباً إسلاميّاً ولا مدرّساً ولا خطيباً ولا مربّيّاً إلاّ ويستشهد بآراء الإمام وينهل من كتبه ويحيل عليها سواءً في الفقه أو مقاصد الشريعة أو السيرة أو الرقائق والتزكيّة.

وابن القيم هو محمد بن أبي بكر الزرعي، من علماء القرن الثامن الهجري، وتشير كنيته إلى أبيه الّذي كان قيّماً على المدرسة الجوزية بدمشق، لذلك عرف بابن قيم الجوزية، وأطلق عليه اختصاراً "ابن القيم".

وقد زاد من شهرته _ رحمه الله _ أنه أبرز تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميّة ووارث علومه وصاحبه في المعارك العلميّة وفي المحن أيضاً، فقد كانا نزيلي نفس السجن الّذي وافت فيه المنيّة شيخه، ولم يعاقبا بالحبس لجرم ارتكباه سوى آراء علميّة لم يرض عنها بعض الحكّام وحاشيتهم.

 

إنتاج علمي متنوع:
اشتغل ابن القيم بجميع العلوم الشرعيّة وألّف فيها كتباً ضخمةً ومتوسّطةً ورسائل صغيرةً، وكان بارعاً في تفسير القرآن وصاحب نظر ثاقب فيه وإن لم يفرد للتفسير كتاباً لكن تفاسيره مبثوثة في كتبه المختلفة وقد جمعها أحد الباحثين ورتّبها في مؤلّف سمّاه "التفسير القيم للإمام ابن القيم".

كما كان _ رحمه الله _ بارعاً في علوم الحديث ملمّاً بها روايةً ودرايةً، فجمع بين معرفة الرواة والجرح والتعديل وبين حسن فهم السنة النبويّة وفقهها، وهذا ظاهر أيضاً في عدد ما كتبه.

إلى جانب هذا كان فقيهاً حنبليّاً ضليعا له اطّلاع واسع على المذاهب ومناقشات ضافية للعلماء، ولم يكن متعصّباً بل كان سمحاً متأدّباً صاحب عبارات رقيقة ولغة مهذّبة، إلاّ في مسائل العقيدة فقد كان شديداً على الخصوم من غير أن يكون في كلامه فحش أو إسفاف.

 

وأحب في هذا المقام أن أعرّف بإيجاز بأهم مؤلّفاته والتنبيه على مواضيعها، أعظم كتبه وأشهرها:

 كان للإمام ابن القيم ثلاثة كتب كبيرة الحجم عظيمة الشأن في ثلاثة فنون متميّزة، فكان كل كتاب منها مرجعاً أساسيّاً فيها، هي:

إعلام الموقعين: هو مطبوع في أربعة مجلّدات، ومرجع أصيل لطلبة العلم _ وللعلماء خاصّةً _ في الفقه والأصول والمقاصد. تناول فيه أصول الفقه مع استطرادات مطولة ضمّنها آراءه في مسائل أصولية وفقهيّة عديدة كذم الرأي،  والتقليد، وكتعليل الأحكام، وإبطال الحيل، وكالفتوى وشروطها، وفي هذا الكتاب بالذات أبدع في مسألة مقاصد الشريعة والعمل بالمصلحة وإحياء فقه الصحابة والتابعين.

زاد المعاد في هدي خير العباد: سفر عظيم الفائدة في هدي الرسول _ صلى الله عليه وسلّم _ وسيرته وسنّته العطرة، هو في الحقيقة كتاب جامع للإسلام كلّه، تطرق فيه إلى جميع أبواب الفقه من الطهارة والصلاة إلى الجهاد والمعاملات، كل ذلك انطلاقاً من هدي النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وسنته، كما احتوى على تفاصيل السيرة النبوية من النسب الشريف إلى وفاة المصطفى _عليه الصلاة والسلام_ مع وقفات مطولة مع أحداث معينة كالغزوات مثلاً حيث يستطرد المؤلّف مع سرد الوقائع ومناقشة الأحاديث الواردة فيها تصحيحاً وتضعيفاً وجمعاً وترجيحاً، والإطناب في استخراج الدروس والعبر والعظات.

مدارج السالكين: هو _ في تقديري _ ثالث ثلاثة أعظم وأجل وأنفع كتب الإمام ابن القيم، يقع في ثلاثة مجلّدات وهو يحتوي على ما يمكن اعتباره "علم التربية الإسلامي"، تظهر فيه براعة المؤلّف ومعرفته بالنفس الإنسانية في كل أحوالها، فهو يصف أمراضها المختلفة، ومع الوصف العلاج الإيماني المناسب، كما يركّز على تزكية النفس وصقل القلب وحسن العلاقة بالله.

والكتاب شرح وتعليق على رسالة للشيخ إسماعيل الهروي عنوانها "منازل السائرين في مقامات إياك نعبد وإياك نستعين" أحصت عدداً من الأخلاق الربانية العالية، قام ابن القيم بالتوسع فيها وتجليتها وتنزيلها على المؤمنين، فكان مربّياً حكيماً ومرشداً عارفاً بطرق النفوس وتقلباتها.

 

منزلة هذه الكتب:
أرى أن طالب العلم الشرعي لا يمكنه الاستغناء عن هذه الكتب الثلاثة ليكون على درجة من العلم بالأصول والفقه والسنّة والسيرة والتربية الروحية.

 

كتب أخرى:
إلى جانب هذه المراجع الثلاثة الكبرى ألّف الإمام _ رحمه الله _ عدداً كبيراً من الكتب في هذه العلوم الشرعيّة وغيرها، نذكر أهمها:

 

أوّلاً: في الفقه والأصول:

الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: وهو بمثابة ما يسمّى اليوم "قانون الإجراءات" يحتاج إليه القاضي _ وكذلك المفتي فضلاً عن طالب العلم _ لتنزيل السياسة الشرعيّة على الوقائع والأحداث تكييفاً وحكماً.

إغاثة اللهفان في مكابد الشيطان: كتاب من مجلّدين يعرض فيه لمزالق يقع فيها الفقهاء وغيرهم وهم يتعاملون مع نصوص الشريعة، شنّ فيه حملةً ضاريّةً على الحيل الشرعيّة. وفي الكتاب _ كعادة ابن القيم _ لفتات قلبيّة وروحيّة تخرجه من صلابة لغة الفقه والأحكام إلى جو روحاني يخاطب الإنسان كلّه، قلبه وعقله وجوارحه.

تحفة المودود في أحكام المولود: كتاب صغير جمع فيه ما يتعلّق بالمولود الجديد من أحكام وآداب.

أحكام أهل الذمة: عرض فيه للأحكام الشرعيّة التي تنطبق على غير المسلمين من أبناء البلاد الإسلامية، والملاحظ أن ابن القيم أظهر فيه شدّةً كبيرةً على الذميين، الأمر الّذي مازال يستشهد به أنصاره ومخالفوه بل وخصوم الإسلام إلى اليوم، وأرى أن تلك الشدّة تعود إلى الظروف الّتي عاشها بنفسه في الشام المتّسمة بالحروب الصليبيّة وتعاون بعض أهل الذمّة مع الغزاة المحتلّين، وكثير من آرائه فيه أقرب إلى الاجتهادات الشخصية منه إلى الأحكام الثابتة بالقرآن والسنة.

 

ثانيّاً: في الأخلاق والرقائق:

عدّة الصابرين وذخيرة الشاكرين: كتاب متوسّط بديع يتناول فيه خلقي الصبر والشكر، ويظهر فيه _كما في المدارج _ إطلاعه الواسع على التصوّف إلى جانب ربانيته وصفاء روحه وحسن عبارته.

الداء والدواء: رسالة نافعة يردّ فيها على سؤال في الحب والعشق.

 

ثالثاً: في العقائد:

آراء ابن القيم في العقائد وانتصاره لاختيارات شيخه ابن تيميّة مبثوثة في جميع كتبه لا يكاد يخلو منها واحد، وقد أفرد كتباً في الموضوع، أهمّها:

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى: ينقض فيه بالحجّة الدامغة عقائدهم، ويظهر فيه اطّلاعه الدقيق على الأديان المختلفة.

شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل.

الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة.

اجتماع الجيوش الإسلاميّة على غزو المعطلة والجهمية.

 

ولا بد أن أذكر هنا أنني تمنّيت أن الإمام _ رحمه الله _ صرف جهده ووقته في غير الكتابين الأخيرين، لكان أنفع للأجيال المسلمة إلى قيام الساعة، وأعلم أنّه عاش جوّاً غلب فيه علم الكلام وبرزت فيه الفرق الضالة فانخرط في حركة الرد والمناظرة، لكن مثل هذه الكتب لا ترقى إلى باقي مؤلّفاته لأنّها ظرفيّة. رحم الله ابن قيم الجوزية، فقد نفع الله بعلمه خلقاً كثيراً؛ لأنّه عاش لهذا الدين وعلومه وأمّته.

 

المصدر

 

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله