والمتأولون أصناف عديدة، بحسب الباعث لهم على التأويل، وبحسب قصور أفهامهم ووفورها. وأعظمُهم توغُّلًا في التأويل الباطل مَن فسد قصدُه وفهمُه، فكلَّما ساء قصدُه وقصَر فهمُه كان تأويله أشدَّ انحرافًا. فمنهم من يكون تأويله لنوع هوًى من غير شبهة، بل يكون على بصيرة من الحق. ومنهم من يكون تأويله لنوع شبهةٍ عرضت له أخفَتْ عليه الحقَّ. ومنهم من يجتمع له الأمران: الهوى في القصد، والشبهة في العلم.
وبالجملة، فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل. وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصِفِّين والحَرَّة وفتنة ابن الزبير وهلمَّ جرًّا بالتأويل. وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية من باب التأويل. فما امتُحِن الإسلام بمحنة قطُّ إلا وسببها التأويل، فإنَّ محنته إمَّا من المتأولين، وإما أن يسلَّط عليهم الكفارُ، بسبب ما ارتكبوا من التأويل، وخالفوا فيه ظاهرَ التنزيل، وتعلَّلوا بالأباطيل.
فما الذي أراق دماءَ بني جَذيمة ــ وقد أسلموا ــ غيرُ التأويل حتى رفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يديه وتبرَّأ إلى الله من فعل المتأوِّل بقتلهم وأخذ أموالهم؟.
وما الذي أوجب تأخُّرَ الصحابة - رضي الله عنهم - يومَ الحديبية عن موافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُ التأويل، حتى اشتدَّ غضبه لتأخُّرهم عن طاعته، حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟
وما الذي سفَكَ دمَ أمير المؤمنين عثمان ظلمًا وعدوانًا وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غيرُ التأويل؟
وما الذي سفَك دمَ عليٍّ - رضي الله عنه - وابنه الحسين وأهل بيته غيرُ التأويل؟
وما الذي أراق دمَ عمار بن ياسر وأصحابه غيرُ التأويل؟
وما الذي أراق دمَ ابن الزبير وحُجْر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غيرُ التأويل؟
وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غيرُ التأويل؟
وما الذي جرَّد الإمامَ أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجَّت الخليقة إلى ربِّها غيرُ التأويل؟
وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلَّد خلقًا من العلماء في السجون حتى ماتوا غيرُ التأويل؟
وما الذي سلَّط سيوفَ التتار على دار الإسلام حتى ردُّوا أهلها غيرُ التأويل؟
وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟
وهل فُتِح بابُ التأويل إلا مضادّةً ومناقضةً لحكم الله في تعليمه عبادَه البيان الذي امتنَّ في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه؟ فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان والتبيين. وهل فرقٌ بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له، وبين ردِّه وعدم قبوله؟ ولكن هذا ردُّ جحود ومعاندة، وذاك ردُّ خداع ومصانعة!
قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمَّى بـ «الكشف عن مناهج الأدلة»، وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة، إلى أن قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] وهؤلاء أهل الجدل والكلام. وأشدُّ ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيرًا مما ظنُّوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أمر الله به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم. ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجِزًا من جهة الوضوح والبيان، فما أبعد من مقصد الشارع مَن قال فيما ليس بمتشابه: إنه متشابه، ثم أوَّل ذلك المتشابه بزعمه، وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل! مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه.
ثم قال: وبالجملة، فأكثر التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تُؤُمِّلت وُجِدت ليس يقوم عليها برهان.
إلى أن قال: ومثالُ مَن أوَّلَ شيئًا من الشرع وزعم أن ما أوَّله هو الذي قصده الشرعُ مثالُ مَن أتى إلى دواءٍ قد ركَّبه طبيب ماهر، ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر، فجاء رجل، فلم يلائمه ذلك الدواء الأعظم، لرداءة مزاجٍ كان به ليس يعرض إلا للأقلِّ من الناس، فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرَّح باسمه الطبيبُ الأول في ذلك الدواء العامِّ المنفعة لم يُرِد به ذلك الدواء العامَّ الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواءً آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة. فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركَّب الأعظم، وجعل فيه بدله الدواءَ الذي ظنَّ أنه قصده الطبيب، وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب الأول. فاستعمل الناس ذلك الدواء المركَّب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأوِّل، ففسدت أمزجة كثير من الناس. فجاء آخرون، فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركَّب، فراموا إصلاحه بأن بدَّلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس نوعٌ من المرض غير النوع الأول.
فجاء ثالث، فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني، فعرض من ذلك للناس نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين. فجاء متأول رابع، فتأول دواءً آخر غير الأدوية المتقدمة؛ فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة.
فلما طال الزمان بهذا الدواء المركَّب الأعظم، وسلَّط الناس التأويل على أدويته، وغيَّروها وبدَّلوها= عرض منه للناس أمراض شتَّى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حقِّ أكثر الناس. وهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة مع الشريعة، وذلك أن كلَّ فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده صاحبُ الشرع، حتى تمزَّق الشرعُ كلَّ ممزَّق، وبعد جدًّا عن موضوعه الأول.
ولما علم صاحبُ الشرع صلوات الله وسلامه عليه أن مثل هذا يعرض ــ ولا بدَّ ــ في شريعته قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة»، يعني بالواحدة: التي سلكت ظاهر الشرع، ولم تؤوِّله.
وأنت إذا تأمَّلتَ ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبيَّنتَ أن هذا المثال صحيح.
وأول من غيَّر هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية. ثم جاء أبو حامد، فطمَّ الوادي على القَريِّ.
هذا كلامه بلفظه.
ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأممَ قديمًا وحديثًا بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدَّة أسفار. والله المستعان.
إعلام الموقعين عن رب العالمين (5/ 162 – 168 ط عطاءات العلم)