تولية أهل الذمة بعض شؤون البلاد الإسلامية

 

ولما كانت الوِلاية شقيقةَ الوَلاية كانت ‌توليتهم ‌نوعًا من تَوَلِّيهم، وقد حكم تعالى بأن من تولَّاهم فإنه منهم، ولا يتمُّ الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع البراءة والولاية أبدًا، والولاية إعزازٌ، فلا تجتمع هي وإذلال الكفر أبدًا، والولاية صلةٌ، فلا تُجامِع معاداةَ الكافر أبدًا.

ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتَّاب، ومكاتبتهم الفرنجَ أعداء الإسلام، وتمنِّيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الأمكان= لثَناهم ذلك عن تقريبهم وتقليدهم الأعمال.

وهذا المَلِك الصالح كان في دولته نصراني يُسمَّى بخاصِّ الدولة أبي الفضائل بن دخانٍ، ولم يكن في المباشرين أمكنُ منه. وكان المذكور قَذاةً في عين دين الإسلام، وبَثْرةً في وجه الدين، ومثالبه في الصحف مسطورةٌ، ومخازيه مخلَّدةٌ مذكورةٌ، حتى بلغ مِن أمره أنه وقَّع لرجلٍ نصراني أسلم بردِّه إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية. ولم يزل يكاتب الفرنجَ بأخبار المسلمين وعمَّالهم، وأمر الدولة وتفاصيل أحوالها. وكان مجلسه معمورًا برسل الفرنج والنصارى، وهم مُكْرَمون لديه وحوائجهم مقضيَّةٌ عنده، ويُحمل لهم الأَدرار والضِّيافات، وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم يُنْصَفوا في التحية ولا في الكلام.

فاجتمع به بعض أكابر الكتَّاب فلامَه على ذلك، وحذَّره من سوء عاقبة صُنْعه، فلم يزِدْه ذلك إلا تمرُّدًا. فلم يمضِ على ذلك إلا يسيرٌ حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابرُ الناس من الكتّاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعضَ الجماعة عن أمرٍ أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى، فبسط لسانه في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثةً والثلاثة واحدًا، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 75]. وأولُ أمانتهم وعقدِ دينهم: باسم الأب والابن وروح القدس إلهٌ واحد. فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء، وقال في قصيدةٍ له:

كيف يَدرِي الحسابَ من جعلَ الوا … حدَ ربَّ الورى تعالى ثلاثَهْ

ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانةً؟ وكلما استخرج ثلاثةَ دنانير دفع إلى السلطان دينارًا وأخذ لنفسه اثنين، ولاسيما وهو يعتقد ذلك قربةً وديانةً؟ وانصرف القوم، واتفق أن كَبَتْ بالنصراني بطْنَتُه، وظهرت خيانته فأُرِيق دمه، وسُلِّط على وجوده عدمُه. وفيه يقول عُمارة اليمني:

قلْ لابن دخانٍ إذا جئتَه … ووجهُه يَنْدَى من القَرْقفِ

لم تَكْفِك الدنيا ولو أنها … أضعافُ ما في سورة الزخرف

فاصفَعْ قَفا الذلِّ ولو أنه … بين قَفا القسِّيس والأُسْقف

ملَّكَك الدهْرُ سِبالَ الورى … فاحْلِقْ لحاهم آمنًا وانْتِف

خلا لك الديوانُ من ناظرٍ … مستيقظِ العزم ومن مُشرِف

فاكسِبْ وحصِّلْ وادَّخِرْ واكتنِزْ … واسرِقْ وخُنْ وابْطِشْ ولا تَضْعُفِ

وابكِ وقلْ ما صحَّ لي درهمٌ … فردٌ وصَلِّبْ وابتهِلْ واحلِفِ

واغتنمِ الفرصةَ من قبلِ أن … تَقضِي على الإنجيلِ والمصحف


أحكام أهل الذمة - ط عطاءات العلم (1/ 340 - 344)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله