الفصل السادس عشر: في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله
لما كان وضع الكلام للدلالة على مراد المتكلم وكان مراده لا يعلم إلا بكلامه انقسم كلامه ثلاثة أقسام:
أحدها: ما هو نص في مراده لا يحتمل غيره
الثاني: ما هو ظاهر في مراده وإن احتمل أن يريد غيره
الثالث: ما ليس بنص ولا ظاهر في المراد بل هو مجمل يحتاج إلى البيان...
القسم الثاني: ما هو ظاهر في مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل
فهذا ينظر في وُروده؛ فإن أطّرد استعماله على وجه واحد استحال تأويله بم يخالف ظاهره؛ لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء نادرا خارجا عن نظائره منفردا عنها فيؤول حتى يُردّ إلى نظائره، وتأويل هذا غير ممتنع لأنه إذا عرف من عادة المتكلم باطّراد كلامه في توارد استعماله معنى ألفه المخاطب؛ فإذا جاء موضع يخالفه ردّه السامع بما عهد من عُرف المخاطب إلى عادته المطّردة، هذا هو المعقول في الأذهان والفِطر وعند كافة العقلاء.
وقد صرح أئمة العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادُّعي فيه حذفه قد استعمل فيه ثبوته أكثر من حذفه فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف عندهم صالحا للثبوت، ويكون الثبوت مع ذلك أكثر من الحذف، حتى إذا جاء ذلك محذوفا في موضع عُلم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد أزيل من هذا الموضع فحمل عليه، فهذا شان من يقصد البيان والدلالة، وأما من يقصد التلبيس والتعمية فله شأن آخر.
والقصد أن الظاهر في معناه إذا اطّرد استعماله في موارده مستويا امتنع تأويله، وإن جاز تأويل ظاهر مالم يطرد في موارد استعماله، ومثال ذلك إطراد قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 54]، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف: 54] في جميع موارده من أولها إلى آخرها على هذا اللفظ؛ فتأويله باستولى باطل، وإنما كان يصح أن لو كان أكثر مجيئه بلفظ استولى ثم يخرج موضع عن نظائره ويرد بلفظ استوى فهذا كان يصح تأويله باستولى؛ فتفطن لهذا الموضع واجعله قاعدة فيما يمتنع تأويله من كلام المتكلم وما يجوز تأويله.
ونظير هذا إطّراد النصوص بالنظر إلى الله: (هكذا ترون ربكم)، (تنظرون إلى ربكم)، (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة: 23] ولم يجىء في موضع واحد ترون ثواب ربكم فيحمل عليه ما خرج عن نظائره.
ونظير ذلك إطراد قوله: (وَنَادَيْنَاهُ) [مريم: 52]، (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) [القصص: 62]، (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا) [الأعراف: 22]، (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا) [القصص: 46]، (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ) [النازعات: 16] ونظائرها، ولم يجىء في موضع واحد أمرنا من يناديه، ولا ناداه ملكنا؛ فتأويله بذلك عين المحال والباطل.
ونظير ذلك إطراد قوله: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول...." في نحو ثلاثين حديثا كلها مصرحة بإضافة النزول إلى الرب، ولم يجىء موضع واحد بقوله ينزل ملك ربنا حتى يُحمل ما خرج عن نظائره عليه.
وإذا تأملت نصوص الصفات التي لا تسمح الجهمية بأن يسموها نصوصا فإذا احترموها قالوا ظواهر سمعية وقد عارضتها القواطع العقلية وجدتها كلها من هذا الباب، ومما يقضي منه العجب أن كلام شيوخهم ومصنفيهم عندهم نص في مراده لا يحتمل التأويل، وكلام الموافقين عندهم نص لا يجوز تأويله حتى إذا جاءوا إلى كلام الله ورسوله وقفوه على التأويل، ووقفوا التأويل عليه فقل ما شئت وحرّف ما شئت. أفترى بيان هؤلاء لمرادهم أتم من بيان الله ورسوله أم كانوا مستولين على بيان الحقائق التي سكت الله ورسوله عن بيانها؛ بل أولئك هم الجاهلون المنهوكون.
الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 384 - 388)