إيضاح قول بعض العلماء إن الطُّرق إلى الله متعددة

الطريقَ إلى اللَّه واحد، فإنَّه هو الحقُّ المبين، والحق واحد، مرجعه إلى واحد، وأمَّا الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل. فالباطل متعدِّد، وطرقه متعددة.

وأمَّا ما يقع في كلام بعض العلماءِ أنَّ الطرق إلى اللَّهِ متعددة متنوعة، جعلها اللَّه كذلك لتنوع الاستعدادت واختلافها، رحمةً منه وفضلًا فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق.

وكشف ذلك وإيضاحه أنَّ الطريقَ واحدة جامعة لكلِّ ما يرضي اللَّه. وما يرضيه سبحانه متعدِّدٌ متنوعٌ، فجميعُ ما يُرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال، فكلُّها طرُق مرضاته. فهذه هي التي جعلها اللَّه سبحانه برحمته وحكمته كثيرةً متنوعةً جدًّا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم. ولو جعلها نوعًا واحدًا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوَّة الاستعدادت وضعفها لم يسلكها إلا واحدٌ بعد واحدٍ. ولكن لمَّا اختلفت الاستعدادت تنوعت الطرق ليسلك كلّ امرئٍ إلى ربِّه طريقًا يقتضيها استعدادُه وقوتُه وقبولُه ومن هنا يُعلَم تنوُّعُ الشرائع واختلافُها مع رجوعها كلِّها إلى دينٍ واحد، بل تنوعُ الشريعة الواحدة، مع وحدة المعبود ودينه. ومنه الحديث المشهور: "الأنبياءُ أولادُ عَلَّات، دينُهم واحد". فأولادُ العلَّات أن يكون الأبُ واحدًا والأُمَّهاتُ متعدِّدة، فشبَّه دينَ الأنبياءِ بالأب الواحد، وشرائعهم بالأُمَّهاتِ المتعددة. فإنَّها وإن تعددت فمرجعها كلها إلى أب واحد.

وإذا عُلِمَ هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي تعبَّد بسلوكه إلى اللَّه طريق العلم والتعليم، وقد وفَّرَ عليه زمانَه مبتغيًا به وجه اللَّه. فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتَّى يصل من تلك الطريق إلى اللَّهِ، ويفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه، فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) [النساء: 100]. وقد حكي عن جماعة كثيرة ممَّن أدركه الأجل، وهو حريص طالب للقرآن، أنَّه رُئي بعد موته، وأخبرَ أنَّه في تكميل مطلوبه وأنَّه يتعلَّم في البرزخ؛ فإنَّ العبد يموت على ما عاش عليه.

ومن الناس من يكون سيّد عمله الذكر، وقد جعله زادَه لمعاده ورأسَ ماله لمآله، فمتى فتَر عنه أو قصّر فيه رأى أنَّه قد غُبِن وخَسِر.

ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصّر في وِرْده منها، أو مضى عليه وقت، وهو غير مشغولٍ بها أو مستعدٍّ لها، أظلم عليه وقتُه، وضاق صدُره.

ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدّي، كقضاءِ الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وأنواع الصدقات، قد فتح له في هذا، وسلك منه طريقًا إلى ربّه.

ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن، فهي الغالب على أوقاته، وهي أعظم أوراده.

ومنهم من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر عليه قلبُه، وساءَت حاله.

ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد فُتِح له فيه، ونفذ منه إلى ربّه.

ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحجّ والاعتمار ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمّة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.

ومنهم الجامع الفَذّ، السالك إلى اللَّه في كلِّ واد، الواصل إليه من كلّ طريق. فهو قد جعل وظائفَ عبوديته قِبلةَ قلبه ونصبَ عينه، يؤمّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كلّ فريق بسهم. فأين كانت العبوديةُ وجدتَه هناك: إن كان علمٌ وجدتَه مع أهله، أو جهاد وجدتَه في صفّ المجاهدين، أو صلاة وجدتَه في القانتين، أو ذكر وجدتَه في الذاكرين، أو إحسان ونفع وجدتَه في زمرة المحسنين، أو مراقبة ومحبّة وإنابة إلى اللَّه وجدتَه في زمرة المحبّين المنيبين. يدين بدين العبوديّة أنَّى استقلَّتْ ركائبُها، ويتوجّه إليها حيث استقرّت مضاربُها. لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفّذ أوامرَ ربّي حيث كانت، وأين كانت، جالبةً ما جلبَتْ، مقتضيةً ما اقتضتْ، جمعتني أو فرّقتني؛ ليس لي مراد إلَّا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبًا له فيها، عاكفًا عليه بالروح والقلب والبدن والسرّ. قد سلّمتُ إليه المبيعَ منتظرًا منه تسليمَ الثمن. (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111].

فهذا هو العبد السالك إلى ربّه، النافذ إليه حقيقة. ومعنى النفوذ إليه أن يتّصل به قلبه ويعلق به تعلّقَ المحبِّ التامِّ المحبّة لمحبوبه، فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى في قلبه إلَّا اللَّه وأمره وطلب التقرّب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربُّه، فقرَّبه، واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه، وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه، وتولّى تربيته أحسن وأبلغ مما يربّي الوالدُ الشفيقُ ولدَه. فإنَّه سبحانه القيّوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميّته بمن أحبّه، وتولاه، وآثره على ما سواه؛ ورضي به من الناس حبيبًا وربًّا، ووكيلًا وناصرًا ومعينًا وهاديًا؟ فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه به وبرّه وصنعه له، من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، لذاب قلبُه حبًّا له وشوقًا إليه، وتقطّع شكرًا له. ولكن حجب القلوبَ عن مشاهدة ذلك إخلادُها إلى عالم الشهوات والتعلّق بالأسباب، فصُدّت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.


طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (1/ 385 - 389)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله