الأسباب الجالبة للتأويل

وهي أربعة أسباب: اثنان من المتكلم، واثنان من السامع. فالسببان اللذان من المتكلم: إمَّا نقصان بيانه، وإمَّا سوء قَصْده. واللذان من السامع: إمَّا سوء فهمه، وإمَّا سوءُ قَصْده. فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة انتفى التأويل الباطل، وإذا وُجدت أو بعضها وقَعَ التأويل.

فنقول وبالله التوفيق: لمَّا كان المقصودُ من التخاطب التقاءَ قصْدِ المتكلم وفَهْم المخاطب على محزٍّ واحدٍ، كان أصحَّ الأفهام وأسعد الناس بالخطاب ما التقى فيه فهْمُ السامع ومرادُ المتكلم. وهذا هو حقيقة الفقه الذي أثنى اللهُ ورسوله به على أهله وذمَّ مَن فقَدَه، فقال تعالى: (وَلَكِنَّ اَلْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 7]، وقال: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ اِلْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 77]. وقال في الثناء على أهله: (قَدْ فَصَّلْنَا اَلْأيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 99]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ". وقال لزياد بن لبيد: "إِنْ كُنْتُ لَأعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ".

فالفقه فهمُ مقصود المتكلم من كلامه، وهذا أمرٌ زائدٌ على مجرد الفهم.

فإذا كان المتكلم قد وفَّى البيانَ حقَّه وقصَدَ إفهامَ المخاطَب وإيضاحَ المعنى له وإحضارَه في ذهنه، فوافَقَ مِن المخاطب معرفةً بلغة المتكلم وعُرفه المطَّرِد في خطابه، وعَلِمَ مِن كمال نصحِه أنه لا يقصد بخطابه التعميةَ والإلغاز، لم يخفَ عليه معنى كلامه، ولم يقع في قلبه شكٌّ في معرفة مراده.

وإن كان المتكلمُ قد قصَّر في بيانه، وخاطَبَ السامع بألفاظ مجمَلة تحتمل عدةَ معانٍ، ولم يبيِّن له ما أراده منها؛ فإن كان عاجزًا عن ذلك أُتي السامعُ مِن عجزِه لا مِن قصده، وإن كان قادرًا عليه ولم يفعله حيث ينبغي فِعله أُتي السامعُ مِن سُوء قصده.

وقد يحسن ذلك من المتكلم إذا كان في التعمية على المخاطب مصلحةٌ راجحةٌ، فيتكلم بالمجمل لِيجعلَ لنفسه سبيلًا إلى تفسيره بما يتخلص به، أو ليُوهِم السامع أنه أراد ما لا يخاف إفهامَه إياه، أو لغير ذلك من الأسباب التي يحسن معها التعريضُ والكناية والخطاب بضدِّ البيان، وهذا من خاصة العقل. وقد قال تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اِلنِّسَاءِ) [البقرة: 233]. وفي الحديث: "إِنَّ فِي المَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ".

إبراهيم الخليل للجبار بقوله عن امرأته: "هَذِهِ أُخْتِي". وعرَّض النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله في طريقه ممَّن أنتم؟ فقال: "نَحْنُ مِنْ مَاءٍ". وعرَّضَ الصدِّيق لمن جعل يسأله في طريق الهجرة: مَن هذا معك؟ فقال: "هادٍ يَهديني السبيلَ".

فهذه المواضع ونحوها يحسُن فيها تركُ البيان، إمَّا بكنايةٍ عن المقصود، أو تعريضٍ عنه. والفرق بينهما أنه في الكناية قاصدٌ لإفهام المخاطب مرادَه بلفظ أخفى لا يفهمه كلُّ أحدٍ، فيكني عن المعنى الذي يريده بلفظ أخفى من لفظه الصريح، كما كنَّى الله سبحانه عن الجماع بالدخول وبالمَسِّ واللمس والإفضاء، وكما يُكنى عن الفرج بالهَنِ، ونحو ذلك.

وأمَّا التعريض فإيهام السامع معنًى ومرادُه خلافه، كالتعريض بالقذف مثلًا. فإذا قال: ما أنا بزانٍ أوهَمَ السامع نفي الزِّنا عن نفسه، ومراده إثباته للسامع، قال الحماسي:

لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ … لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا

كَأَنَّ رَبَّكَ لَمْ يَخْلُقْ لِخَشْيَتِهِ … سِوَاهُمُ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ إِنْسَانَا

فإنه أوهم السامع تنزيههم عن الشرور ووصفهم بخشية الله، ومرادُه وصفُهم بالعجز والجبن.

ومثله قول الآخر:

قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ … وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً … إِذا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَل

وأمَّا السببان اللذان من السامع، فأحدهما: سوءُ الفهم.

فإن درجات الفهم متفاوتة في الناس أعظم تفاوتٍ، فإنَّ قُوى الأذهان كقوى الأبدان، والناس متفاوتون في هذا وهذا تفاوُتًا لا ينضبط.

وقد سُئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: هل خصَّكم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ دون الناس فقال: "لا، والذي فلَقَ الحبَّةَ وبرَأَ النسَمَةَ إلَّا فَهْمًا يؤتيه اللهُ عبدًا في كتابِه، وما في هذه الصحيفةِ. وكان فيها العقل ـ أي: الدِّيَات ـ وفَكاكُ الأسيرِ".

وكان أبو بكر الصدِّيق أفهمَ الأُمة لكلام الله ورسوله. ولهذا لما أشكَل على عمر ـ مع قوة فَهْمه ـ قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرَامَ إِن شَاءَ اَللَّهُ آمِنِينَ) [الفتح: 27]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: "إِنَّكُمْ تَأْتُونَهُ وَتَتَطَوَّفُونَ بِهِ"، فأورده عليه عامَ الحديبية، فقال له الصدِّيق: أقال لك إنك تأتيه العامَ؟ قال: لا، قال: فإنك آتِيهِ ومُطوِّفٌ به. فأجابه بجواب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

وأشكَل عليه قتال الصدِّيق لمانعي الزكاة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إَلَّا اللهُ. فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ". فقال: ألم يقل "إلَّا بِحَقِّهَا"؟ فإن الزكاة من حقها.

ولمَّا أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ" بكى أبو بكر، وقال: "نَفْدِيك بآبائنا وأُمَّهاتنا". فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخيَّرَ، وكان أبو بكر هو أعلمَ الأُمة به.

وكذلك فَهِم عمرُ بن الخطاب وعبد الله بن عباس من سورة (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اُللَّهِ وَاَلْفَتْحُ) أنها إعلامٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضور أجله.

وكذلك كان الصحابة أعلمَ الأُمة على الإطلاق، وبينهم وبين مَن بعدهم في العلم واليقين كما بينهم وبينهم في الفضل والدِّين. ولهذا كان ما فَهِمه الصحابةُ من القرآن أَوْلى أن يُصار إليه ممَّا فهمه مَن بعدهم.

فانضاف حُسنُ قصدِهم إلى حُسن فَهْمهم، فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الآخر، ولا يُحفَظ عنهم في ذلك خلافٌ لا مشهورٌ ولا شاذٌّ.

فلمَّا حدث بعد انقضاء عصرهم مَنْ ساء فهمُه وساء قصدُه وقعوا في أنواع من التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد. وقد يجتمعان وقد ينفردان، وإذا اجتمعا تولَّد من بينهما جهلٌ بالحق ومعاداة لأهله واستحلال ما حرَّم الله منهم.

وإذا تأملتَ أصول المذاهب الفاسدة رأيتَ أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلينِ، وحملهم عليها منافسةٌ في رياسةٍ أو مالٍ أو توصُّلٍ إلى عَرَض من أعراض الدُّنيا، تخطبه الآمالُ، وتتبعه الهممُ، وتشرئبُّ إليه النفوسُ، فيتفق للعبد شبهةٌ وشهوةٌ، وهما أصل كل فسادٍ، ومنشأ كل تأويلٍ باطلٍ.

وقد ذمَّ الله سبحانه مَن اتبع الظنّ وما تهوى الأنفس، فالظن: الشبهات وما تهوى الأنفس: الشهوات، وهما اللذان ذكرهما في سورة براءة في قوله تعالى: (كَاَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاَسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاَسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اَسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَاَلَّذِي خَاضُوا) [التوبة: 69].

فذكر الاستمتاعَ بالخَلاقِ، وهو التمتع بالشهوات، وهو نصيبهم الذي آثَروه في الدنيا على حظِّهم من الآخرة؛ والخوضَ الذي اتبعوا فيه الشُّبهاتِ. فاستمتعوا بالشهوات، وخاضوا بالشبهات، فنشأ عنهما التفرقُ المذموم الذي ذمَّ اللهُ أهله في كتابه، ونهى عبادَه المؤمنين عن التشبه بهم، فقال: (وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاَخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران: 105 - 106]. قال ابن عباس: "تبيضُّ وجوهُ أهل السُّنَّة والائتلاف، وتسودُّ وجوهُ أهل الفرقة والاختلاف".

وأخبر سبحانه أن الحامل لهم على التفرق بعد البيان إنما هو البغي، فقال تعالى: (كَانَ اَلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اَللَّهُ اُلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ اُلْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنَّاسِ فِيمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اَخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللَّهُ اُلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اَخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة: 211]. فأخبر سبحانه أن الذين آمنوا هُدوا لِمَا اختلف فيه أهلُ التأويل الباطل الذي أوقعهم في الاختلاف والتفرق.

وقال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اُلْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) [الشورى: 12].

وقال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اَلْكِتَابَ وَاَلْحُكْمَ وَاَلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى اَلْعَالَمِينَ *  وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اَخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الجاثية: 15 - 16]. 

فأخبر سبحانه أن المختلفين بالتأويل لم يختلفوا لخفاء العلم الذي جاءت به الرُّسل عليهم، وإنما اختلفوا بعد مجيء العلم. وهذا كثير في القرآن، كقوله: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ اَلطَّيِّبَاتِ فَمَا اَخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ اُلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: 93]. وقال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اُلْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ اُلْبَيِّنَةُ) [البينة: 4]. فهؤلاء المختلفون بالتأويل بعد مجيء الكتاب كلهم مذمومون، والحامل لهم على التفرق والاختلاف: البغي وسوء القصد.


الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 256 - 265)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله