التأويل وجناياته على أصول الإيمان والإسلام

وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر، والإيمانُ به أصل الإيمان بما عدَاه، واشتمالُ القرآن بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه، وتنوعُ الدلالة بها على ثبوت مَخبَره أعظم من تنوعها في غيره؛ وذلك لشرف متعلقه وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته، وكانت الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبينَ من غيره.

ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم ومعبودهم جل جلاله فوق مراتب هذه الحاجات كلها؛ فإنهم لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح ولا نعيم إلَّا بأن يعرفوه ويعبدوه، ويكون هو وحدَه غاية مطلوبهم، ونهاية مرادهم؛ وذِكرُه والتقرب إليه قرةُ عيونهم وحياة قلوبهم. فمتى فَقَدُوا ذلك كانوا أسوأ حالًا من الأنعام بكثيرٍ، وكانت الأنعام أطيب عيشًا منهم في العاجل، وأسلم عاقبة في الآجل.

يُوضحه أن الربَّ تعالى لم يذكر للعباد من صفات ملائكته وشأنهم وأفعالهم وأسمائهم عُشر مِعْشار ما ذَكَر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله وأسمائه وأفعاله. فإذا كانت هذه قابلة للتأويل فالآيات التي ذُكِرَت فيها الملائكة أَوْلى بقبوله. ولذلك تأولها الملاحدةُ، كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر، وأبدَوْا له تأويلات ليست بدون تأويلات الجهمية لنصوص الصِّفات. وأوَّلت هذه الطائفةُ عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية، وقالوا للمتأولين من الجهمية: بيننا وبينكم حاكمُ العقل، فإن القرآن بل الكتب المنزلة مملوءة بذكر الفوقية وعلو الله تعالى على عرشه، وأنه تكلَّم ويتكلم، وأنه موصوف بالصفات، وأن له أفعالًا تقوم به هو بها فاعلٌ، وأنه يُرى بالأبصار، إلى غير ذلك من نصوص الصِّفات، التي إذا قِيسَ إليها نصوص حَشْرِ هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالَم آخر، وُجدت نصوصُ الصِّفات أضعافَ أضعافها، فهذه الآيات والأخبار الدالة على علو الربِّ تعالى على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه قد قيل إنها تُقارِبُ الألفَ، وقد أجمعت عليها الرسلُ من أولهم إلى آخرهم. فما الذي سوَّغَ لكم تأويلها، وحرَّمَ علينا تأويل نصوص حشْرِ الأجساد وخراب العالَم؟

قيل: وقد أجمعوا على أن الله فوق عرشه، وأنه متكلمٌ مُكلَّمٌ، فاعلٌ حقيقةً، موصوف بالصفات، فإنْ مُنِعَ إجماعهم هناك من التأويل وَجَبَ أن يمنع هاهنا.

قلنا: هاتوا أدلة العقول التي تأولتم بها الصِّفات، ونحضر نحن أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشْرَ الأجساد، ونوازن بينها ليتبَّينَ أيها أقوى.

قلنا: وإنكار صفات الربِّ وأنه متكلم آمرٌ ناهٍ فوق سماواته، وأن الأمر ينزل مِن عنده ويصعد إليه تكذيبٌ لما عُلم أنهم جاؤوا به ضرورةً.

قلنا: فمن أين صار تأويلنا للنصوص التي جاؤوا بها في المعاد يستلزم تكذيبهم وردَّ أخبارهم دون تأويلكم إلَّا لمجرد التحكم والتشهِّي.قالوا: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من نصوص الخبر؟

فهذا من شؤم جناية التأويل على أصول الإيمان والإسلام.

وأنت إذا تأملتَ عامة شُبَه المتأولين ـ التي تأولوا لأجلها النصوص وعطلوها ـ رأيتها من جنس شبهته. والقائل: «إذا تعارض العقل والنقل قدَّمنا العقل» من هاهنا اشتق هذه القاعدة، وجعلها أصلًا لردِّ نصوص الوحي التي يزعم أن العقل يخالفها، كما زعم إمامه أن دليل العقل يخالف نصَّ الأمر بالسجود حين قدَّمه عليه. وعرضت لعدوِّ الله هذه الشبهة من ناحية كِبْره الذي منعه من الانقياد المحض لنص الوحي، وهكذا تجد كل مُجادِلٍ في نصوص الوحي بالباطل إنما يحمله على ذلك كِبرٌ في صدره ما هو ببالغه. قال الله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اِللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاَسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اُلْبَصِيرُ) [غافر: 56].


الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 161 - 167)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله