قد شَهِدت الفِطر والعقولُ بأنَّ للعالم ربًّا قادرًا حكيمًا عليمًا رحيمًا، كاملًا في ذاته وصفاته، لا يكونُ إلا مريدًا للخير لعباده، مُجْرِيًا لهم على الشريعة والسُّنَّة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركَّب في عقولهم من استحسان الحَسَن واستقباح القبيح، وما جَبَل طباعَهم عليه من إيثار النَّافع لهم المصلح لشأنهم وترك الضارِّ المفسد لهم.
وشَهِدت هذه الشريعةُ له بأنه أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، وأنه المحيطُ بكلِّ شيءٍ علمًا.
وإذا عُرِف ذلك؛ فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في مُلوك العالم، أنهم يسوُّون بين من هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلَّ ما يعرفُه الملوك، وإعلامهم جميعَ ما يَعْلمونه، وإطلاعهم على كلِّ ما يُجْرُون عليه سياساتهم في أنفسهم وفي منازلهم، حتى لا يقيموا في بلدٍ قيِّمًا إلا أخبروا من تحت أيديهم بالسَّبب في ذلك، والمعنى الذي قصدوه منه، ولا يأمرون رعيَّتهم بأمرٍ، ولا يضربون عليهم بعثًا، ولا يَسُوسونهم سياسةً إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه وغايته ومدَّته، بل لا تتصرَّفُ بهم الأحوالُ في مطاعمهم ومشاربهم وملابسهم ومراكبهم إلا وَقَفُوهم على أغراضهم فيه.
ولا شكَّ أنَّ هذا منافٍ للحكمة والمصلحة بين المخلوقين، فكيف بشأنِ ربِّ العالمين وأحكم الحاكمين، الذي لا يشاركُه في علمه ولا في حكمته أحدٌ أبدًا؟!
فحَسْبُ العقول الكاملة أن تستدلَّ بما عرفَت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلمَ أنَّ له حكمةً في كلِّ ما خلقه وأمر به وشرعه.
وهل تقتضي الحكمةُ أن يخبر الله تعالى كلَّ عبد من عباده بكلِّ ما يفعلُه، ويُوقِفهم على وجه تدبيره في كلِّ ما يريدُه، وعلى حكمته في صغير ما ذَرَأ وبَرَأ من خليقته؟! وهل في قُوى المخلوق ذلك؟! بل طوى سبحانه كثيرًا من صنعه وأمره عن جميع خلقه، فلم يُطْلِع على ذلك مَلَكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرسلًا.
والمدبِّر الحكيمُ من البشر إذا ثبتت حكمتُه وابتغاؤه الصَّلاحَ لمن تحت تدبيره وسياسته كفى في ذلك تتبُّعُ مقاصده فيمن يولِّي ويَعْزِل، وفي جنس ما يأمرُ به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيَّته وسياسته لهم، دون تفاصيل كلِّ فعلٍ من أفعاله، اللهمَّ إلا أن يبلُغ الأمرُ في ذلك مبلغًا لا يوجدُ لفعله منفذٌ ومَسَاغٌ في المصلحة أصلًا، فحينئذٍ يخرجُ بذلك عن استحقاق اسم الحكيم.
ولن يجد أحدٌ في خَلْق الله ولا في أمره واحدًا من هذا الضرب، بل غايةُ ما يخرجه تفتيشُ المتعنِّت أمورٌ يعجزُ العقلُ عن معرفة وجوهها وحكمتها، وأمَّا أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله؛ إلا أن يكون ما أخرجه كذبًا على الخلق والأمر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه.
وإذا عُرِف هذا فقد عُلِم أنَّ ربَّ العالمين أحكمُ الحاكمين، والعالمُ بكلِّ شيء، والغنيُّ عن كلِّ شيء، والقادرُ على كلِّ شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعالُه وأوامرُه قطُّ عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صُنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفتُه بالوجه العامِّ أن تضمَّنته حكمةٌ بالغة، وإن لم يعرفوا تفصيلَها، وأنَّ ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به، فيكفيهم في ذلك الإسنادُ إلى الحكمة البالغة العامَّة الشاملة التي عَلِموا ما خَفِي منها مما ظهر لهم.
هذا، وإنَّ الله سبحانه وتعالى بنى أمورَ عباده على أن عرَّفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما، وهذا مطَّردٌ في الأشياء أصولها وفروعها.
فأنت إذا رأيتَ الرجلين ــ مثلًا ــ أحدُهما أكثر شَعرًا من الآخر، أو أشدُّ بياضًا، أو أحدُّ ذهنًا، لأمكنك أن تعرف مِنْ جهة السَّبب الذي أجرى الله عليه سُنَّة الخليقة وجه اختصاص كلِّ واحدٍ منهما بما اختصَّ به. وهكذا في اختلاف الصُّور والأشكال.
ولكن لو أردتَ أن تعرف المعنى الذي كان شَعرُ هذا مثلًا يزيدُ على شَعر الآخر بعددٍ معيَّن، أو المعنى الذي فضَّله اللهُ به في القَدْر المخصوص والتَّشكيل المخصوص، ومعرفة القَدْر الذي بينهما من التَّفاوت وسببَه؛ لما أمكن ذلك أصلًا.
وقِس على هذا جميعَ المخلوقات، من الرِّمال والجبال والأشجار ومقادير الكواكب وهيآتها.
وإذا كان لا سبيل إلى معرفة هذا في الخلق، بل يكفي فيه العلَّةُ العامَّةُ والحكمةُ الشاملة، فهكذا في الأمر يُعْلَمُ أنَّ جميعَ ما أمر به متضمِّنٌ لحكمةٍ بالغة، وأمَّا تفاصيلُ أسرار المأمورات والمنهيَّات فلا سبيل إلى علم البشر به، ولكن يُطْلِعُ الله من شاء من خلقه على ما شاء منه، فاعتصِم بهذا الأصل.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 859 - 863)