ولذّات الدنيا ثلاثة أنواع:
فأعظمها وأكملها: ما أوصل إلى لذة الآخرة. ويثاب الإنسان على هذه اللذة أتمّ ثواب. ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجهَ الله من أكله وشربه ولبسه ونكاحه، وشفاء غيظه بقهر عدو الله وعدوّه، فكيف بلذة إيمانه ومعرفته بالله، ومحبته له، وشوقه إلى لقائه، وطمعه في رؤية وجهه الكريم في جنات النعيم؟
النوع الثاني: لذة تمنع لذة الآخرة، وتُعقِب آلامًا أعظمَ منها، كلذّة الذين اتخذوا من دون الله أوثانًا مودةَ بينهم في الحياة الدنيا، يحبّونهم كحبّ الله، ويستمتعون بعضهم ببعض، كما يقولون في الآخرة إذا لقُوا ربهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:128 - 129]، ولذّةِ أصحاب الفواحش والظلم والبغي في الأرض والعلوّ بغير الحق.
وهذه اللذّات في الحقيقة إنّما هي استدراج من الله لهم، ليذيقهم بها أعظم الآلام، ويحرمهم بها أكملَ اللذّات، بمنزلة من قدّم لغيره طعامًا لذيذًا مسمومًا يستدرجه به إلى هلاكه.
قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182، 183].
قال بعض السلف في تفسيرها: كلّما أحدثوا ذنبًا أحدثنا لهم نعمةً. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44، 45].
وقال تعالى في أصحاب هذه اللذّات: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55، 56].
وقال في حقّهم: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55].
وهذه اللذّات تنقلب آخرًا آلامًا من أعظم الآلام، كما قيل:
مآربُ كانت في الحياة لأهلها … عِذابًا فصارت في المعاد عَذابا
النوع الثالث: لذة لا تعقِبُ لذةً في دار القرار ولا ألمًا، ولا تمنع أصل لذة دار القرار، وإن منعَتْ كمالَها. وهذه اللذة المباحة التي لا يستعان بها على لذة الآخرة. فهذه زمانها يسير، ليس لتمتُّعُ النفس بها قدر، ولابدّ أن تشغل عمّا هو خير وأنفع منها.
وهذا القسم هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "كلّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميَه بقوسه، وتأديبَه فرسه، وملاعبتَه امرأته؛ فإنهنّ من الحقّ".
فما أعان على اللذة المطلوبة لذاتها فهو حقّ، وما لم يعن عليها فهو باطل.
الداء والدواء (ص: 546 – 548 ط عطاءات العلم)