قال الله تعالى: (المخبتين) [الحج: 34]، ثم كشف عن معناهم فقال: (إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) [الحج: 35].
وقال: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) [هود: 23].
الخبت في أصل اللغة: المكان المنخفض من الأرض. وبه فسر ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة لفظ (المخبتين) فقالا: هم المتواضعون. وقال مجاهد: المخبت: المطمئن إلى الله، قال: والخبت: المكان المطمئن من الأرض. وقال الأخفش: الخاشعون. وقال إبراهيم النخعي: المخلصون. وقال الكلبي: هم الرقيقة قلوبهم. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون، وإذا ظلموا لم ينتصروا.
وهذه الأقوال تدور على معنيين: التواضع، والسكون إلى الله تعالى. ولذلك عدي بـ «إلى» تضمينا لمعنى الطمأنينة والإنابة والسكون إلى الله.
قال صاحب «المنازل»: (هو من أول مقامات الطمأنينة).
يعني بمقامات الطمأنينة: السكينة، واليقين، والثقة بالله تعالى ونحوها. فالإخبات مقدمتها ومبدؤها.
قال: (وهو ورود المسافر من الرجوع والتردد).
لما كان الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد الذي هو نوع شك، والرجوع الذي هو نوع غفلة وإعراض، والسالك مسافر إلى ربه سائر إليه على مدى أنفاسه، لا ينتهي سيره إليه ما دام نفسه يصحبه= شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله، فيرويه مورده ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر، فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التردد وخاطر الرجوع. كذلك السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع، ونزل أول منازل الطمأنينة لسفره وجد في السير.
قال: (وهو على ثلاث درجات. الدرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشهوة، وتستدرك الإرادة الغفلة، ويستهوي الطلب السلوة).
المريد السالك تعرض له غفلة عن مراده تضعف إرادته، وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده، ورجوع عن مراده سلوة عنه.
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة، فـ (تستغرق عصمته شهوته)، والعصمة هي الحماية والحفظ، والشهوة: الميل إلى مطالب النفس، والاستغراق للشيء: الاحتواء عليه والإحاطة به. يقول: تغلب عصمته شهوته وتقهرها، وتستوفي جميع أجزائها. فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة، فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ونزوله منازلها، وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار والرجوع والعزم، إلى الاستقامة والعزم الجازم والجد في السير. وذلك علامة السكينة.
و (تستدرك إرادته غفلته)، والإرادة عند القوم هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله تعالى، والمريد هو الذي قد خرج من وطن طبعه ونفسه وأخذ في السير إلى الله والدار الآخرة، فإذا نزل في منزلة الإخبات أحاطت إرادته بغفلته، فاستدركها واستدرك بها فارطها.
وأما (استهواء طلبه لسلوته)، فهو قهر محبته لسلوته وغلبتها له، بحيث تهوي السلوة وتسقط، كالذي يهوي في بئر. وهذا علامة المحبة الصادقة أن تقهر وارد السلوة وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا.
فالحاصل: أن عصمته وحمايته تقهر شهوته، وإرادته تقهر غفلته، ومحبته تقهر سلوته.
قال: (الدرجة الثانية: أن لا ينقض إرادته سبب، ولا يوحش قلبه عارض، ولا يقطع عليه الطريق فتنة).
هذه ثلاثة أمور أخرى تعرض لصاحب الإرادة: سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته، ووحشة تعرض له في طريق طلبه ولا سيما عند تفرده، وفتنة تخرج عليه تقصد قطع الطريق عليه.
فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات، لأن إرادته إذا قويت وجد به السير لم ينقضها سبب من أسباب التخلف. والنقض هو الرجوع عن إرادته والعدول عن جهة سفره.
ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب والجواذب عمن هو متوجه إليه. والعارض هو المخالف، كالشيء الذي يعترضك في طريقك فيجيء في عرضها. ومن أقوى هذه العوارض عارض وحشة التفرد، فلا يلتفت إليه، كما قال بعض الصادقين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب. وقال آخر: لا تستوحش في طريق الحق من قلة السالكين، ولا تغتر في الباطل بكثرة الهالكين.
وأما (الفتنة التي تقطع عليه الطريق)، فهي الواردات التي ترد على القلوب، تمنعها من مطالعة الحق وقصده. فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب لم يطمع فيه عارض الفتنة.
وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرقت على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات، وتجلت عليه معانيها، وكافح قلبه حقيقة اليقين بها.
وقد قيل: من أخذ العلم من عين العلم ثبت، ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه ومالت به العبارات واختلفت عليه الأقوال.
قال: (الدرجة الثالثة: أن يستوي عنده المدح والذم، وتدوم لائمته لنفسه، ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته).
متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم، فلا يفرح بمدح الناس ولا يحزن لذمهم. هذا وصف من خرج عن حظ نفسه وتأهل للفناء في عبودية ربه، وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات، وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه.
والوقوف عند مدح الناس وذمهم علامة انقطاع القلب وخلوه من الله تعالى، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه.
قوله: (وأن تدوم لائمته لنفسه) فهو أن صاحب هذا المنزل لا يرضى عن نفسه، وهو مبغض لها متمن لمفارقتها.
والمراد بالنفس عند القوم: ما كان معلولا من أوصاف العبد، مذموما من أخلاقه وأفعاله، سواء كان ذلك كسبيا له أو خلقيا؛ فهو شديد اللائمة لها. وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) [القيامة: 2]، قال سعيد بن جبير وعكرمة: تلوم على الخير والشر، ولا تصبر على السراء ولا على الضراء.
وقال قتادة: اللوامة الفاجرة.
وقال مجاهد: تندم على ما فات وتقول: لو فعلت! ولو لم أفعل!
وقال الفراء: ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت عملت خيرا قالت: هلا زدت! وإن عملت شرا قالت: ليتني لم أفعل!
وقال الحسن: هي النفس المؤمنة؛ إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بأكلتي؟ وإن الفاجر يمضي قدما قدما ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها.
وقال مقاتل: هي النفس الكافرة، تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا.
والقصد: أن من بذل نفسه لله بصدق كره بقاءه معها، لأنه يريد أن يتقبلها من بذلت له، لأنه قد قربها له قربانا. ومن قرب قربانا فتقبل منه ليس كمن رد عليه قربانه، فبقاء نفسه معه دليل أنه لم يتقبل قربانه.
وأيضا، فإنه من قواعد القوم المجمع عليها بينهم، التي اتفقت كلمة أولهم وآخرهم ومحقهم ومبطلهم عليها: أن النفس حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأنه لا يصل إلى الله تعالى حتى يقطع هذا الحجاب، كما قال أبو يزيد - رحمه الله -: رأيت رب العزة في المنام فقلت: يا رب كيف الطريق إليك؟ فقال: خل نفسك وتعال.
فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله، وكل سائر فلا طريق له إلا على ذلك الجبل، فلابد أن ينتهي إليه. وأكثر السائرين منه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقبته. والشيطان على قلة الجبل يحذر الناس من صعوده وارتقائه ويخوفهم منه، فتتفق مشقة ذلك الجبل وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته، فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع، والمعصوم من عصمه الله.
وكلما رقي السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه، فإذا قطعه وبلغ قلته «فإذا المخاوف كلهن أمان».
وحينئذ يسهل وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقابها، ويرى طريقا واسعا آمنا، به المنازل والمناهل، وعليه الأعلام، وفيه الإقامات، وفيه يزك الرحمن.
فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة، وصبر ساعة، وشجاعة نفس، وثبات قلب، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
فصل
قوله: (ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته) يعني أنه وإن كان أعلى ممن دونه من الناقصين عن درجته، إلا أنه لاشتغاله بالله وامتلاء قلبه من محبته ومعرفته والإقبال عليه يشتغل عن ملاحظة حال غيره، وعن شهود النسبة بين حاله وأحوال الناس، ويرى اشتغاله بذلك والتفاته إليه نزولا عن مقامه وانحطاطا عن درجته ورجوعا على عقبه. فإن هجم عليه ذلك بغير استدعاء واختيار فليداوه بشهود المنة وخوف المكر وعدم علمه بالعاقبة التي يوافي عليها. والله المستعان.
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 209 - 217 ط عطاءات العلم)