وهذه النمل من أهدى الحيوانات، وهدايتها من أعجب شيء؛ فإنَّ النملة الصغيرة تخرجُ من بيتها وتطلب قوتَها وإن بَعُدت عليها الطريق، فإذا ظفرت به حملته وساقته في طرق مُعْوَجّة بعيدة، ذات صعود وهبوط، في غاية من التوعّر حتى تصل إلى بيوتها، فتخزّن فيها أقواتها في وقت الإمكان، فإذا خزنتها عمدت إلى ما ينبت منها ففلقته فلقتين لئلا ينبت، فإن كان ينبت مع فَلْقه باثنتين فلقته بأربعة، فإذا أصابه بلل وخافت عليه العفن والفساد انتظرت به يومًا ذا شمس، فخرجت به فنشرته على أبواب بيوتها، ثم أعادته إليها، ولا تتغذى منها نملة على ما جمعه غيرها.
ويكفي في هداية النمل ما حكاه الله سبحانه في القرآن عن النملة التي سمع سليمان كلامها وخطابها لأصحابها بقولها: (يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [النمل: 18]، فاستفتحت خطابها بالنداء الذي يسمعه من خاطبته، ثم أتت بالاسم المبهم، ثم أتبعته بما بيَّنه من اسم الجنس إرادة للعموم، ثم أمرتهم بأن يدخلوا مساكنهم فيتحصنون من العسكر، ثم أخبرت عن سبب هذا الدخول، وهو خشية أن يصيبهم مَعَرّة الجيش، فيحطمهم سليمان وجنوده، ثم اعتذرت عن نبي الله وجنوده بأنهم لا يشعرون بذلك، وهذا من أعجب الهداية.
وتأمل كيف عظَّم الله سبحانه شأن النمل بقوله: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [النمل: 17]، ثم قال: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ)، فأخبر أنهم بأجمعهم مروا على ذلك الوادي، ودلَّ على أن ذلك الوادي كان معروفًا بالنمل، كوادي السِّباع ونحوه، ثم أخبر عمَّا دل على شدة فطنة هذه النملة، ودقة معرفتها، حيث أمرتهم أن يدخلوا مساكنهم المختصة بهم، فقد عرفت هي والنمل أن لكل طائفة منها مسكنًا لا يدخل عليهم فيه سواهم، ثم قالت: لا يحطمنكم سليمان، فجمعت بين اسمه وعينه، وعرَّفته بهما، وعرفت جنوده وقائدها، ثم قالت: وهم لا يشعرون، فكأنها جمعت بين الاعتذار عن مَعَرَّة الجيش بكونهم لا يشعرون، وبين لوم أمة النمل حيث لم يأخذوا حِذْرهم، ويدخلوا مساكنهم، ولذلك تبسّم نبي الله سليمان ضاحكًا من قولها، وإنه لموضع تعجّب وتبسّم.
وقد روى الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله نهى عن قتل أربع: النملة، والنحلة، والهدهد، والصُّرَد.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نزل نبيٌّ من الأنبياء تحت شجرة فقرصته نملة، فأمر بجهازه فأخرج، وأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبّح؟! فهلّا نملة واحدة! ".
وذكر هشام بن حسان أن أهل الأحنف بن قيس لقوا من النمل شدّة، فأمر الأحنف بكرسي فوضع عند بيوتهن فجلس عليه، ثم تشهّد، ثم قال: لتنتهنّ أو لنحرقنّ عليكن ونفعل ونفعل، قال: فذهبن.
وروى عوف بن أبي جميلة، عن قَسَامَة بن زهير، قال: قال أبو موسى الأشعري: إن لكل شيء سادة، حتى إن للنمل سادة.
ومن عجيب هدايتها، أنها تعرف ربّها بأنه فوق سماواته على عرشه، كما رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد من حديث أبي هريرة يرفعه قال: "خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة رافعة قوائمها إلى السماء تدعو، مستلقية على ظهرها، فقال: ارجعوا فقد كفيتم أو سقيتم بغيركم".
ولهذا الأثر عدَّة طُرق، ورواه الطحاوي في التهذيب وغيره.
وقال الإمام أحمد: حدثنا [وكيع، حدثنا مسعر، عن زيد العَمِّي، عن أبي الصدّيق الناجي قال: خرج سليمان بن داود يستسقي، فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنّا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك ورزقك، فإمّا أن تسقينا وترزقنا، وإما أن تهلكنا، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم.
وقد حدثني مَن أثق به أن نملة خرجت من بيتها، فصادفت شِقّ جرادة، فحاولت أن تحمله فلم تطق، فذهبت وجاءت معها بأعوان يحملنه معها، قال: فرفعْتُ ذلك من الأرض، فطافت في مكانه فلم تجده، فانصرفوا وتركوها، قال: فوضعْتُه، فعادت تحاول حمله فلم تقدر، فذهبت وجاءت بهم، فرفعْتُه، فطافت فلم تجده، فانصرفوا، قال: فعلتُ ذلك مرارًا، فلما كان في المرة الأخيرة استدار النمل حلقة، ووضعوها في وسطها، وقطعوها عضوًا عضوًا.
قال شيخنا ــ وقد حكيت له هذه الحكاية ــ: هذه النمل فطرها الله سبحانه على قبح الكذب وعقوبة الكذاب.
والنمل من أحرص الحيوان، ويُضرب بحرصه المثل.
ويُذكر أن سليمان بن داود ــ صلوات الله وسلامه عليه ــ لما رأى حرص النملة، وشدَّة ادخارها للغذاء؛ استحضر نملة وسألها: كم تأكل النملة من الطعام كل سنة؟ قالت: ثلاث حبّات من الحنطة. فأمر بإلقائها في قارورة، وسَدَّ فم القارورة، وجعل معها ثلاث حبّات حنطة، وتركها سنة بعد ما قالت، ثم أمر بفتح القارورة عند فراغ السنة، فوجد فيها حبَّة ونصف حبة، فقال: أنتِ زعمتِ أن قُوتك كل سنة ثلاث حبات! فقالت: نعم، ولقد صدقتك، ولكن لما رأيتك مشغولًا بمصالح أبناء جنسك، حَسَبْتُ الذي معي فوجدته أكثر من المدة المضروبة، فاقتصرت على نصف القوت، واستبقيت نصفه استبقاء لنفسي.
فعجب سليمان من شدة حرصها، وهذا من أعجب الهداية والفطنة.
ومن حرصها أنها تكدّ طوال الصيف، وتجمع للشتاء، علمًا منها بإعواز الطلب في الشتاء، وتعذر الكسب فيه.
وهي على ضعفها شديدة القوى؛ فإنها تحمل أضعاف أضعاف وزنها، وتجره إلى بيتها.
ومن عجيب أمرها أنك إذا أخذت عضو جرادة يابسًا فأدنيته إلى أنفك لم تشم له رائحة، فإذا وضعته على الأرض أقبلت النملة من مكان بعيد إليه فاحتملته، فإن عجزت عن حمله ذهبت وأتت معها بصف من النمل يحملونه، فكيف وجدت رائحة ذلك من جوف بيتها حتى أقبلت بسرعة إليه!
فهي تدرك بالشم من البعد ما يدركه غيرها بالبصر أو بالسمع، فتأتي من مكان بعيد إلى موضعٍ أَكَلَ فيه الإنسان، وبقي فيه فتات من الخبز أو غيره، فتحمله وتذهب به، وإن كان أكبر منها، فإن عجزت عن حمله، ذهبت إلى جحرها وجاءت معها بطائفة من أصحابها، فجاؤوا كخيط أسود يتبع بعضهم بعضًا، حتى يتساعدوا على حمله ونقله.
وهي تأتي إلى السنبلة فتشمها، فإن وجدتها حنطة قطعتها وفرّقتها وحملتها، وإن وجدتها شعيرًا تركتها.
فلها أولًا صدق الشم، وبُعْد الهمة، وشدة الحرص، والجرأة على محاولة نقل ما هو أضعاف أضعاف وزنها.
وليس للنمل قائد ورئيس يدبرها كما يكون للنحل، إلا أن لها رائدًا يطلب الرزق، فإذا وقف عليه أخبر أصحابه فيخرجن مجتمعات.
وكل نملة تجتهد في صلاح العامة منها، غير مختلسة من الحَبّ شيئًا لنفسها دون صواحباتها.
ومن عجيب أمرها أنّ الرجل إذا أراد أن يحترز من الذّر لا يسقط في عسل أو نحوه، فإنه يحفر حُفَيرة ويجعل حولها ماء، أو يتخذ إناء كبيرًا ويملؤه ماء، ثم يضع فيه ذلك الشيء، فيأتي الذّر يطيف به فلا يقدر عليه، فيتسلق في الحائط، ويمشي على السقف، إلى أن يحاذي ذلك الشيء، فتلقي نفسها عليه، وجربنا نحن ذلك.
وأحمى صانعٌ مرَّة طوقًا بالنار، ورماه على الأرض ليبرد، واتفق أن أسفل الطوق نمل، فتوجه في الجهات ليخرج فلحقه وهج النار، فلزم المركز ووسط الطوق وكان فيه، وكان ذلك مركزًا له، وهو أبعد مكان من المحيط.
شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - ط عطاءات العلم (1/ 229)