جماع الأمر بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن

وجماع الأمر في ذلك إنَّما هو بتكميل عبوديّة اللَّه عزَّ وجلَّ في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلّها في محبوبات اللَّه، فكمالُ عبوديّة العبد موافقتُه لربِّه في محبَّه ما أحبَّه، وبذلُ الجهدِ في فعله؛ وموافقتُه في كراهة ما كرهه، وبذلُ الجهد في تركه. وهذا إنَّما يكون للنفس المطمئنّة، لا للأمَّارة ولا للّوَّامة. فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل.

وأمَّا من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرتُه منفتحةً في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاصّ فيها مطابقٌ لما جاء به الرسول لا مخالفٌ له، فإنّ بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف. ويكون مع ذلك قائمًا بأحكام العبوديّة الخاصَّة التي تقتضيها كلُّ صفة بخصوصها.

وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم. وهو طريق سهل قريب مُوصِل، طريق آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه. ولكن يستدعي رسوخًا في هذا العلم، ومعرفةً تامَّةً به، وإقدامًا على ردِّ الباطل المخالف له ولو قاله من قاله. وليس عند أكثر النَّاس سوى رسومٍ تلقَّوها عن قومٍ معظَّمين عندهم، فهم لإحسان ظنِّهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم، ولم يتجاوزوها إلى غيرها، فصارت حجابًا لهم وأيَّ حجاب!

فمن فتح اللَّه بصيرةَ قلبه وإيمانه حتَّى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل، فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ولا يُخاف عليه إلا مِن ضعفِ همته. فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همَّة عالية فذاك السابق حقًّا واحدُ النَّاس في زمانه، لا يُلحَق شأْوُه، ولا يشقُّ غبارُه. فشتَّان ما بين من يتلقَّى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات، وبين من يتلقَّاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرّد ذوقه ووجده، إذا استحسن شيئًا قال: هذا هو الحقّ.

فالسيرُ إلى اللَّه من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب، وفتحُه عجب. صاحبه قد سبق السُّعاة، وهو مستلقٍ على فراشه، غيرُ تعب ولا مكدود، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل/ 88]، وليس العجب من سائر في ليله ونهاره، وهو في السُّرى لم يبرح من مكانه. وإنَّما العجب من ساكنٍ لا يُرى عليه أثرُ السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز! فسائرٌ قد ركبتْه نفسُه، فهو حاملها سائرٌ بها، ملبوك بها، يعاقبها وتعاقبه، ويجرّها وتهرب منه، ويخطو بها خطوةً إلى أمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه؛ فهو معها في جهد وهي معه كذلك. وسائرٌ قد ركب نفسَه، وملك عِنانَها، فهو يسوقها كيف شاءَ وأين شاءَ، لا تلتوي عليه، ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف في يد مالكه وآسِره، وكالدابّة الريّضة المنقادة في يد سائسها وراكبها، فهي منقادة معه حيث قادها، فإذا رام التقدّم جمَزَتْ به وأسرعت، فإذا أرسلها سارت به وجرت في الحَلْبة إلى الغاية ولا يردّها شيء، فتسير به وهو ساكن على ظهرها؛ ليس كالذي نزل عنها فهو يجرّها بلجامها، ويشحَطها ولا تنشحط. فشتَّان ما بين المسافرين! فتأمَّل هذا المثل، فإنَّه مطابق لحال السائرين المذكورين، واللَّه يختصّ برحمته من يشاء.


طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 468)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله