الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاءٌ
فهذا الموضع ممَّا يغلط فيه كثيرٌ من الناس غلطًا قبيحًا، فإن المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم.
ويُعْرَف مراد المتكلِّم بطرقٍ متعددةٍ:
منها: أن يُصرِّح بإرادة ذلك المعنى.
ومنها: أن يستعمل اللفظَ الذي له معنًى ظاهر بالوضع، ولا تبيَّن بقرينة تصحب الكلامَ أنه لم يُردْ ذلك المعنى.
فكيف إذا حفَّ بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتَه وما وُضِعَ له، كقوله: {وَكَلَّمَ اَللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163]. و «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ». و «اللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ بِأَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلَكَةٍ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُه عِنْدَ رَأْسِهِ، فاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ». فهذا ممَّا يقطع السامعُ فيه بمراد المتكلمِ، فإذا أخبر عن مراده بما دلَّ عليه حقيقة لفظه الذي وُضِعَ له مع القرائن المؤكِّدة له كان صادقًا في إخباره. وأمَّا إذا تأوَّل كلامَه بما لم يدلَّ عليه لفظه، ولا اقترن به ما يدلُّ عليه، فإخبارُه بأن هذا مراده كذبٌ عليه.
فقول القائل: يُحمَلُ اللفظُ على كذا وكذا. يقال له: ما تعني بالحمل؟ أتعني به أن اللفظ موضوع لهذا المعنى، فهذا نقلٌ مجردٌ موضعُه كتب اللغة، فلا أثرَ لحملك. أم تعني به اعتقادَ أن المتكلم أراد ذلك المعنى الذي حملتَه عليه، فهذا قولٌ عليه بلا علمٍ، وهو كذبٌ مفترًى إن لم تأتِ بدليلٍ يدل على أن المتكلم أراده. أم تعني به أنك أنشأت له معنًى، فإذا سمعتَه اعتقدت أن ذلك معناه؛ وهذا حقيقة قولك وإن لم تُرِدْه.
فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير.
وحقيقة الأمر أن قول القائل: نحمله على كذا، أو نتأولُه بكذا. إنما هو من باب دفْعِ دلالة اللفظ على ما وُضِعَ له، فإن منازعَه لما احتجَّ عليه به، ولم يمكنه دفعُ ورودِه، دفَعَ معناه، وقال: أحملُه على خلاف ظاهره.
فإن قيل: بل للحمل معنًى آخر لم تذكروه، وهو أن اللفظ لمَّا استحال أن يراد به حقيقتُه وظاهرُه ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً، لا ابتداءً وإنشاءً.
قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إمَّا صدقٌ أو كذبٌ ـ كما تقدم ـ ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره، ولا يُبَيِّن للسامع المعنى الذي أراده، بل يقترن بكلامه ما يُؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعميةَ على السامع حيث يسوغ ذلك، كما في المعاريض التي يجب أو يسوغ تعاطيها، ولكن المنكر غاية الإنكار أن يريد بكلامه خلافَ ظاهره وحقيقته إذا قصد البيانَ والإيضاح وإفهام مراده. فالخطاب نوعان: نوعٌ يُقصَد به التعميةُ على السامع، ونوعٌ يُقصَد به البيانُ والهداية والإرشاد. فإطلاقُ اللفظ وإرادةُ خلاف حقيقته وظاهره من غير قرائنَ تحتفُّ به تُبيِّنُ المعنى المراد، محلُّه النوع الأول لا الثاني، والله أعلم.
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 42 - 44)