من آيات الله في الأرض: اختلاف أجناسها وصفاتها ومنافعها

ومن آياته أنْ جعلها مختلفةَ الأجناسِ، والصفاتِ، والمنافعِ، مع أنَّها قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، متلاصِقةٌ:

فهذه سَهْلَةٌ، وهذه حَزْنَةٌ تُجَاوِرُها وتلاصِقُها.

وهذه صُلْبَةٌ، وتلاصقها وتليها رِخْوَةٌ.

وهذه سوداء، وتليها أرضٌ بيضاء.

وهذه حصىً كلُّها، وتجاورها أرضٌ لا يوجد فيها حجر.

وهذه تصلح لنبات كذا وكذا، وهذه لا تصلح له بل تصلح لغيره.

وهذه سَبِخَةٌ مالحة، وهذه بضدِّها.

وهذه ليس فيها جَبَلٌ، ولا مَعْلَمٌ، وهذه مُسَجَّرةٌ بالجبال.

وهذه لا تصلح إلا على المطر، وهذه لا ينفعها المطر، بل لا تصلح إلا على سَقْي الأنهار، فيُمْطِرُ الله - سبحانه - الأرضَ البعيدةَ، ويسوق الماءَ إليها على وجه الأرض.

فلو سَأَلْتَها:

مَنْ نوَّعها هذا التنويعَ؟!

ومَنْ فرَّقَ بين أجزائها هذا التفريق؟

ومَنْ خصَّصَ كُلَّ قطعةٍ منها بما خصَّها به؟

ومَنْ ألقى عليها رواسيها، وفتح فيها السُّبُلَ، وأخرج منها الماءَ والمرعَى؟

ومَنْ أمسكها عن الزَّوَال؟

ومَنْ بارك فيها، وقدَّرَ فيها أقواتها، وأنشأ منها حيوانها ونباتها؟

ومَنْ وضع فيها معادنَها، وجواهرَها، ومنافعَها؟

ومَنْ هيَّأها مَسْكنًا ومُسْتَقرًّا للأنام؟

ومَنْ يُبدِئُ منها الخَلْقَ، ثُمَّ يعيدُه إليها، ثُمَّ يُخرِجُهُ منها؟

ومَنْ جعلها ذَلُولًا غير مُسْتَصْعَبَةٍ ولا مُمْتَنِعَةٍ؟

ومَنْ وَطَّأ مناكِبَها، وذلَّل مَسَالكها، ووسَّعَ فِجَاجَها، وشقَّ أنهارها، وأنبت أشجارها، وأخرج ثمارها؟

ومَنْ صَدَعَها عن النَّبَات، وأَوْدَعَ فيها جميع الأقوات؟

ومَنْ بَسَطَها، وفَرَشَها، ومَهَّدَها، وذلَّلَها، وطَحَاها، ودَحَاها، وجعل ما عليها زينةً لها؟

ومَن الذي يُمْسكُها أن تتحرك فتتزلزل فيَسْقُط ما عليها من بناءٍ ومَعْلَمٍ، أو يَخْسِفَها بمن عليها فإذا هي تَمُورُ؟

ومَن الذي أنشأ منها النَّوْعَ الإنسانيَّ الذي هو أبدعُ المخلوقات، وأحسنُ المصنوعات، بل أنشأ منها: آدمَ، ونوحًا، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى، ومحمدًا - صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين -. وأنشأ منها أولياءَهُ، وأحبابَهُ، وعبادَهُ الصالحين؟

ومَنْ جعلها حافِظَةً لما استُودع فيها من المياه، والأرزاق، والمعادن، والحيوان؟

ومَنْ جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القَدْرَ من المسافة، فلو زادت على ذلك لَضَعُفَ تأثرها بحرارة الشمس ونور القمر؛ فتعطَّلَت المنفعةُ الواصِلةُ إلى الحيوان والنَّبَات بسبب ذلك. ولو زادت في القُرْب لاشتدَّت الحرارةُ والسُّخُونَةُ - كما نُشَاهده في الصيف - فاحترقت أبدانُ الحيوان والنَّبَات. وبالجُمْلَة؛ فكانت تَفُوتُ هذه الحكمة التي بها انتظامُ العالَم.

ومَن الذي جعل فيها الجَنَّات، والحدائقَ، والعيونَ؟.

ومَن الذي جعل باطِنَها بيوتًا للأموات، وظاهرَها بيوتًا للأحياء؟

ومَن الذي يُحْييها بعد موتها، فيُنْزِلُ عليها الماء من السماء، ثُمَّ يُرْسِلُ عليها الرِّياحَ، ويُطْلِعُ عليها الشمسَ، فتأخذ في الحَبَل، فإذا كان وقت الولادة مَخَضت للوضع، واهتزَّتْ ورَبَتْ، وأنبتت من كلِّ زوجٍ بهيجٍ.

فسبحانَ من جَعَلَ السماءَ كالأَبِ، والأرضَ كالأُمِّ، والقَطْرَ كالماءِ الذي ينعقد منه الولد، فإذا حَصَل الحَبُّ في الأرض، ووقع عليه الماءُ؛ أثَّرَتْ نَدَاوَةُ الطِّين فيه، وأعانتها السُّخُونةُ المختفيةُ في باطن الأرض، فوَصَلَت النَّدَاوَةُ والحرارةُ إلى باطِن الحَبَّةِ، فاتَّسَعَت الحَبَّةُ ورَبَتْ، وانْتَفَخَتْ، وانْفَلَقَتْ عن ساقَين:

1 - ساقٍ من فوقها، وهو: الشَّجَرَةُ.

2 - وساقٍ من تحتها، وهو: العِرْقُ.

ثُمَّ عَظُمَ ذلك الولدُ حتَّى لم يَبْقَ لأبيه نسبةٌ إليه، ثُمَّ وضَعَ من الأولاد بعَدَدِ أبيه آلافًا مؤلَّفَةً، كلُّ ذلك صُنْع الرَّبِّ الحكيم في حَبَّةٍ واحدةٍ لعلَّها تبلغ في الصِّغَر إلى الغاية، وذلك من البركة التي وضعها الله - سبحانه - في هذه الأُمِّ.

فَيَا لَها من آيةٍ تكفي وحدَها في الدلالة على وجود الخالق، وصفات كماله، وأفعاله، وعلى صدْق رُسُلِه فيما أخبروا به عنه مِن إخراج مَنْ في القبور ليوم البعث والنُّشور.

فتأمَّلْ اجتماعَ هذه العناصر الأربعة، وتجاورَها، وامتزاجَها، وحاجةَ بعضها إلى بعضٍ، وانفعالَ بعضها عن بعض، وتأثيرَهُ فيه، وتأثرَه به، بحيث لا يمكنه الامتناع من التأثرِ والانفعالِ، ولا يَسْتَقِلُّ الآخَرُ بالتأثير، ولا يستغني عن صاحبه.

وفي ذلك أظهر دلالة على أنَّها مخلوقةٌ، مصنوعةٌ، مربُوبةٌ، مُدَبَّرَةٌ، حادِثةٌ بعد عَدَمِها، فقيرةٌ إلى مُوجِدٍ غنيٍّ عنها، مُؤَثِّرٍ غير متأثِّرٍ، قديمٍ غير حادِثٍ، تنقاد المخلوقاتُ كلُّها لقدرته، وتجيب داعي مشيئته، وتُلَبِّي داعي وحدانيته وربوبيته، وتشهَدُ بعلمه وحكمته، وتدعو عبادَهُ إلى ذِكْرِه، وشكره، وطاعته، وعبوديته، ومحبَّته، وتحذِّرُهم من بَأْسِهِ، ونِقْمَتِه، وتحثُّهم على المبادرة إلى رضوانه وجنَّتِه.

فانظر - الآن - إلى الماء والأرض، كيف لمَّا أراد الرَّبُّ - تبارك وتعالى - امتزاجَهُما وازدِوَاجَهُما أنشأ الرِّياح، فحرَّكَتِ الماءَ، وساقَتْهُ إلى أنْ قَذَفَتْهُ في عُمْقِ الأرض، ثُمَّ أنشأ لها حرارةً لطيفةً سماوِيَّةً حصَلَ بها الإنْبات، ثُمَّ أنشأ لها حرارةً أخرى أقوى منها حصل بها الإنْضاج، وكانت حالته الأُولى تَضْعُفُ عن الحرارة الثانية، فادُّخِرَت إلى وقت قوَّته وصلابته. فحرارة الربيع للإخراج، وحرارة الصيف للإنْضاج.

هذا وإنَّ الأُمَّ واحدةٌ، والأَبَ واحدٌ، واللِّقَاحَ واحدٌ، والأولاد في غاية التباين والتنوُّع، كما قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [الرعد: 4]؛ فهذا بعض آيات الأرض.

ومن الآيات التي فيها وَقَائعُهُ - سبحانه - التي أَوْقَعَها بالأُمم المكذبين لرسله، المخالفين لأمره، وأبقى آثارهم دالَّةً عليهم كما قال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ) [العنكبوت: 38].

وقال - تعالى - في قوم لوط: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [الصافات: 137، 138]، وقال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ * فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) [الحجر: 73 - 76] أي: بطريقٍ ثابتٍ لا يزول عن حاله، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر: 77].

وقال تعالى: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ * فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ) [الحجر: 78، 79]؛ أي: دِيَارُ هاتَين الأُمَّتَين لَبِطريقٍ واضحٍ يَمُرُّ به السَّالِكُون.

وقال تعالى: (وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَ كُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ) [إبراهيم: 45].

وقال عن قوم عاد: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف: 25].

وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) [السجدة: 26].

فأيُّ دلالة أعظمُ وأظهرُ من دلالةِ رجلٍ يخرج وحده، لا عُدَّةَ له، ولا عَدَد، ولا مال، فيدعو الأُمَّةَ العظيمة إلى توحيد الله تعالى، والإيمانِ به وطاعته، ويحذِّرهم من بأسه ونِقْمَته، فتَتَّفِقُ كلمتهم - أو أكثرهم - على تكذيبه ومعاداته، فَتُدرِكُهم أنواعُ العقوبات الخارجة عن قدرة البشر، فيُغْرِقُ المكذبين كلَّهم تارةً، ويَخْسِفُ بغيرهم الأرضَ تارةً، ويُهْلِكُ آخرين بالرِّيح، وآخرين بالصَّيحَةِ، وآخرين بالمَسْخِ، وآخرين بالحجارة، وآخرين بظُلَّةٍ من النَّار من فوقهم، وآخرين بالصواعق، وآخرين بأنواع أُخَر من العقوبات، وينْجُو دَاعِيهم وَمَنْ معه، والهالكون أضعافُ أضعافهم عَدَدًا وقوةً ومَنَعَةً وأموالًا.

فَيَا  لَكِ  مِنْ  آياتِ  حَقٍّ  لو اهتَدَى بِهِنَّ  مُرِيدُ  الحَقِّ  كُنَّ  هَوَادِيا
ولكنْ  على  تلك  القلوب  أَكِنَّةٌ فليسَتْ وإنْ أَصْغَتْ تُجِيبُ المُنَادِيا

فَهَلَّا امتَنَعُوا - إنْ كانوا على الحقِّ، وهُمْ أكثرُ عَدَدًا، وأقوى شَوْكَةً - بقوَّتهم وعدَدِهم مِن بَأْسِ اللهِ وسلطانه، وهَلَّا اعتصمُوا من عقوبته، كما اعتصم مَنْ هو أضعفُ منهم من أتباع الرُّسُلِ؟

ومن الآيات التي في الأرضِ ما يُحْدِثُه فيها كلَّ وقتٍ ممَّا يُصَدِّق رُسُلَهُ فيما أخبرَتْ به، فلا تزال آياتُ الرُّسُلِ، وأعلامُ صِدْقِهم، وأدلَّةُ نُبوَّتهم يُحدِثُها الله - سبحانه وتعالى - في الأرض، إقامةً للحُجَّةِ على مَنْ لم يُشَاهِد تلك الآيات التي قارَبَت عَصْرَ الرسول، حتَّى كأنَّ أهلَ كلِّ قَرْنٍ يشاهدون ما يشاهده الأَوَّلُون أو نظيره ، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت: 53].

وهذه الإرَاءَةُ لا تختصُّ بقَرْنٍ دون قَرْنٍ، بل لا بدَّ ما يُري اللهُ - سبحانه - أهلَ كُلِّ قَرْنٍ من الآيات ما يبيِّنُ لهم أنَّه اللهُ الذي لا إله إلا هو، وأنَّ رُسُلَهُ صادقون.

وآياتُ الأرض أعظمُ ممَّا ذُكر وأكثر، فنبَّهَ باليسير منها على الكثير.


التبيان في أيمان القرآن - ط عطاءات العلم (1/ 449 - 457)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله