‌‌مدى صحة نسبة (رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه) لابن القيم

نَسَب هذه الرسالة إلى ابن القيم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد، ولم يذكر أحدًا نسبها قبله، فلعله اعتمد على ما ورد في صفحتها الأولى من نسبتها إليه.

وإثبات صحة نسبتها إليه يحتاج إلى مقارنة منهج هذه الرسالة بمنهج ابن القيم في كتبه الثابتة له، ومقارنة بين نصوصها وبعض نصوصه في كتبه، وبين بعض عباراتها وبعض عباراته في كتبه، فإلى بيان ذلك:

أولًا: مقارنة منهج الرسالة بمنهج ابن القيم في كتبه الثابتة له:

تكلم عدد من المعاصرين عن منهج ابن القيم وأسلوبه في الكتابة، فذكروا عددًا من المناهج والأساليب التي اتبعها في التأليف والبحث، وها هي بعضها، مع المقارنة بينها وبين ما ورد في هذه الرسالة.

1 - من خصائص منهجه: الاعتماد على الأدلة من الكتاب والسنة. وهذه الخصيصة تظهر جلية في هذه الرسالة عمليًا وقوليًا، أما العملي فيظهر في مواضع عديدة من الرسالة، وأما القولي، فقال حينما تكلم عن الأصول التي تضمنتها آية (24) من سورة السجدة: "الثاني: هدايتهم بما أمر به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا بمقتضى عقولهم، وآرائهم، وسياساتهم، وأذواقهم، وتقليد أسلافهم بغير برهان من الله؛ لأنه قال: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [السجدة: 24] ص 19.

وقال عند الآية نفسها: "وفي ذلك دليلٌ على اتّباعهم ما أنزل الله على رسوله، وهدايتهم به وحده دون غيره من الأقوال والآراء والنِّحل والمذاهب، بل لا يهدُون إلا بأمره خاصَّة" ص 26.

وعقد فصلًا في المتابعة والاقتداء، ومما قال فيه:. " … ولعل الأحاديث الثابتة والسنة النبوية من جانبه ولا يلتفتون إلى ذلك، ويقولون: نحن مقلدون لمذهب فلان. وهذا لا يُخَلِّص عند الله: ولا يكود عذرًا لمن تخلف عما علمه من السنة عنده، فإن الله -سبحانه- إنما أمر بطاعة رسوله واتباعه وحده، ولم يأمر باتباع غيره … " ص 42.

2 - ومن منهجه: عدم التعصب لمذهب معين. وفي الكلام السابق له دليل واضح عليه.

3 - ومن منهجه: أنه يعرض النصوص أولًا ثم يستنبط منها، خلافًا لما درج عليه كثير من الفقهاء من قبل ومن بعد، فهم يعرضون المسألة ثم يؤيدونها بالدليل. وهذا المنهج ورد هنا في الرسالة ص 16 – 27.

4 - ومن خصائص منهجه: الاستطراد. وهو سمة بارزة في هذه الرسالة.

5 - وتميز منهجه في أسلوبه: بالجاذبية وحسن التصوير. وهذا المنهج تجده في جميع صفحات الرسالة.

6 - وتميز منهجه: بحسن الترتيب والسياق. وقد ظهر هذا جليًا في هذه الرسالة.

7 - ومن خصائص منهجه: السعة والشمول، بحيث يستوعب الكلام في المسألة من جميع الجوانب. ويلحظ هذا بوضوح عند كلامه حول آية (74) من سورة الفرقان ص 10، وكذلك عند الكلام على الآية (24) من سورة السجدة، ص 17.

8 - ومن خصائص أسلوبه: استشهاده بالشعر له أو لغيره. وجاء هنا مرارًا استشهاده بالشعر لغيره.

هذه أهم المناهج والأساليب التي ظهرت في الرسالة.

ثانيًا: مقارنة بعض نصوص هذه الرسالة بنصوص أخرى في كتبه:

والنصوص المتشابهة كثيرة، أكتفي بثلاثة منها:

1 - ورد في الرسالة (في الأصل): " … وهو لا يمكنه تركها [أي الشهوات] وتقديم هذا المطلوب عليها إلا بأحد أمرين: إما حب متعلق، وإما فرق مزعج … " ص 29.

وفي نسخة (ب، و ج): " … إما حب مقلق .. ".

وقال ابن القيم في (روضة المحبين): "وأبعد القلوب من الله القلب القاسي، ولا يذهب قساوته إلا حب مقلق، أو خوف مزعج".

وقال في (الداء والدواء): "الطريق الثاني المانع من حصول تعلق القلب [بعمل قوم لوط]: اشتغال القلب بما يبعده عن ذلك، ويحول بينه وبين الوقوع فيه، وهو: إما خوف مقلق، أو حب مزعج".

2 - ورد في الرسالة: "وقد اشترى -سبحانه- من المؤمنين أنفسهم، وجعل ثمنها جنته، وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه … كيف يليق بالعاقل أن يضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس … وهل هذا إلا من أعظم الغبن الفاحش يوم التغابن؟ " ص 31 - 32.

وقال ابن القيم في (مدارج السالكين): "فلما عرفوا عظمة المشتري، وفضل الثمن، وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع، عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا، فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس … ".

3 - ورد في الرسالة: "ومدار الدين على هذه القواعد الأربع، وهي: الحب والبغض، ويترتب عليهما الفعل والترك والعطاء والمنع، فمن استكمل أن يكون هذا كله لله استكمل الإيمان، وما نقص منها أن يكون لله، عاد بنقص إيمان العبد" ص 36.

وقال ابن القيم في كتاب (الروح): "والدين كله يدور على أربع قواعد: حب وبغض، ويترتب عليهما فعل وترك، فمن كان حبه وبغضه وفعله وتركه لله فقد استكمل الإيمان، … وما نقص من أصنافه هذه الأربعة نقص من إيمانه ودينه بحسبه".

هده نماذج رأيت أنها تكفي للدلالة على المقصود عن ذكر غيرها.

ثالثًا: مقارنة بعض عبارات الرسالة بعبارات ابن القيم في كتبه:

وردت في أول سطر من الرسالة بعد البسملة عبارة (الله المسؤول المرجو الإجابة)، فهل استعمل ابن القيم هذه العبارة في شيء من كتبه؟

لقد وردت هذه العبارة كاملة في ثلاثة من كتبه. وورد الجزء الأول منها في مواضع عديدة من كتبه.

ونحو هذا الكلام يقال على عباراته في خاتمة الرسالة.

وكلمة (المَشْهد والمَشَاهِد) الواردتان في هذه الرسالة في الكلمات الدارجة عند ابن القيم في بعض كتبه.

النتيجة:

يتبين من خلال الأدلة المتنوعة السابقة أن نسبة الرسالة إلى ابن القيم صحيحة لا مرية فيها، ولا سيما أن فيها نقولًا عن ابن تيمية، ويُعدُّ ابن القيم أحد المكثرين في النقل عنه.


رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه - ط عطاءات العلم (مقدمة التحقيق 9 - 14)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله