العبد إذا وقع في شدّة أو كربة أو بلية خانه قلبُه ولسانُه وجوارحُه عمّا هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكّل على الله، والإنابة إليه، والجمعيّة عليه، والتضرّع والتذلّل والانكسار بين يديه.
ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فينحبسَ القلب على اللسان بحيث يؤثّر الذكر، ولا ينحبسُ القلب واللسان على المذكور، بل إن ذكَرَ أو دعا ذكَرَ بقلب لاهٍ ساهٍ غافل.
ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقَدْ له، ولم تطاوعه.
وهذا كلّه أثر الذنوب والمعاصي، كمن له جند يدفعون عنه الأعداء، فأهمل جنده، وضيّعهم، وأضعفهم، وقطع أخبارهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعَهم في الدفع عنه بغير قوة! هذا، وثَمَّ أمرٌ أخوَفُ من ذلك وأدهى منه وأمرّ، وهو أن يخونه قلبُه ولسانُه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة، كما شاهد الناسُ كثيرًا من المحتضرين أصابهم ذلك، حتّى قيل لبعضهم: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه! آه! لا أستطيع أن أقولها!
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: شاه، رخُّ، غلبتك. ثم قضى.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فقال:
يا رُبَّ قائلةٍ يومًا وقد تعبَتْ | كيفَ الطريقُ إلى حمّام مِنجابِ |
ثم قضى.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء ويقول: تاننا تنتنا، حتى قَضى.
وقيل لآخر ذلك فقال: وما ينفعني ما تقول، ولم أدَعْ معصية إلا ركبتُها، ثم قضى، ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك، فقال: وما يغني عنّي، وما أعرف أنّي صلّيتُ لله صلاةً، ولم يقلها.
وقيل لآخر ذلك، فقال: هو كافر بما يقول، وقضى.
وقيل لآخر ذلك، فقال: كلّما أردتُ أن أقولها فلساني يُمسِك عنها.
وأخبرني من حضر بعض الشحّاذين عند موته، فجعل يقول: لله فلس، لله فلس، حتّى قضى.
وأخبرني بعض التجّار عن قرابة له أنه احتضر، وهو عنده، فجعلوا يلقّنونه: لا إله إلا الله، وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذه مشترى جيّد، هذه كذا، حتى قضى.
وسبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عبرًا! والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضَرين أعظم وأعظم.
وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكّن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من معاصي الله، وقد أغفل قلبه عن الله، وعطّل لسانَه عن ذكره، وجوارحَه عن طاعته، فكيف الظنّ به عند سقوط قواه، واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع،
وجَمْع الشيطانِ له كلَّ قوته وهمّته، وحَشْدِه عليه بجميع ما يقدر عليه، لينال منه فرصته، فإنّ ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانُه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحال؟ فمَن تُرى يَسلَمُ على ذلك؟
فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].
فكيف يوفَّق لحسن الخاتمة من أغفل اللهُ سبحانه قلبَه عن ذكره، واتّبَعَ هواه، وكان أمره فُرُطًا؟ فبعيدٌ من قلبٍ بعيدٍ من الله تعالى، غافلٍ عنه، متعبّدٍ لهواه، أسيرٍ لشهواته؛ ولسانٍ يابسٍ من ذكره، وجوارحَ معطّلةٍ من طاعته مشتغلةٍ بمعصيته = أن توفَّقَ للخاتمة بالحسنى.
ولقد قطع خوفُ الخاتمة ظهورَ المتقين، وكأنّ المسيئين الظالمين قد أخذوا توقيعًا بالأمان! {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: 39].
يــا آمــنًا مــعْ قــبيحِ الــفعل مــنه أهَــلْ | أتــاك تــوقيــــعُ أمــنٍ أنــت تَمــــلكُهُ |
جــمعتَ شــيئَينِ أمــنًا واتّــباعَ هـــــوىً | هــذا وإحــداهما فــي الــمرء تُــهلِكُه |
والــمحسنـون عــلى دَرْبِ الــمخاوفِ قــد | ساروا وذلك دربٌ لســــتَ تَسلــــكُهُ |
فرّطتَ في الزرع وقــــتَ البَذْر مِن سَـفَه | فكيــــف عند حصــــاد الناس تُدركُه |
هــذا وأعــجبُ شــيء مــنك زهـدُك في | دار الــبقاء بعيــــشٍ ســــوف تَتركُه |
مَــنِ الــسفــــيهُ إذًا باللــــه أنــت أم الْـ | مَــغبونُ فـي الــبيع غَبْنًا سوف يُدركه |
الداء والدواء = الجواب الكافي - ط عطاءات العلم (1/ 215 - 220)