الحكمة في وجوب إحداد المرأة على زوجها أكثر مما تحدّ على أبيها

 

وأما قوله: "ومنَعَ المرأة من الإحداد على أبيها وابنها فوق ثلاث، وأوجَبه على زوجها أربعة أشهر وعشرًا وهو أجنبي".

فيقال: هذا من تمام محاسن هذه الشريعة، وحكمتها، ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه. فإنَّ الإحدادَ على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهلُ الجاهلية يبالغون فيها أعظمَ مبالغة، ويُضيفون إلى ذلك شقَّ الجيوب، ولطمَ الخدود، وحلقَ الشعور، والدعاءَ بالويل والثبور. وتمكُث المرأة سنةً في أضيق بيت وأوحشه لا تمَسُّ طيبًا ولا تدَّهن ولا تغتسل، إلى غير ذلك مما هو تسخُّطٌ على الربِّ تعالى وأقداره. فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنَّة الجاهلية، وأبدَلَنا بها الصبرَ والحمدَ والاسترجاعَ الذي هو أنفع للمُصاب في عاجلته وآجلته. ولما كانت مصيبةُ الموت لا بد أن تُحدِث للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباعُ سمَح لها الحكيمُ الخبيرُ في اليسير من ذلك، وهو ثلاثة أيام يجد بها نوعَ راحةٍ، ونقضي بها وطرًا من الحزن؛ كما رخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا. وما زاد على الثلاث فمفسدته راجحة، فمنَع منه؛ بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها. فإن فطام النفوس عن مألوفاتها بالكلِّية من أشقِّ الأمور عليها، فأُعطيت بعضَ الشيء ليسهل عليها تركُ الباقي، فإن النفس إذا أخذت بعضَ مرادها قنِعت به، فإذا سئلت تركَ الباقي كانت إجابتُها إليه أقربَ من إجابتها لو حُرِمَتْه بالكلِّية.

ومَن تأمَّل أسرارَ الشريعة وتدبَّر حِكَمَها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها ونواهيها، باديًا لمن بصرُه ثاقب؛ فإذا حرم عليهم شيئا عوَّضهم عنه بما هو خير لهم منه وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعو حاجتُهم إليه ليسهُل عليهم تركُه؛ كما حرَّم عليهم بيع الرطب بالتمر، وأباح لهم منه العرايا. وحرَّم عليهم النظرَ إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظرَ الخاطب والمُعامل والطبيب. وحرَّم عليهم أكلَ المال بالمغالبات الباطلة كالنَّرد والشِّطْرَنج وغيرهما، وأباح لهم أكلَه بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال. وحرَّم عليهم لباسَ الحرير، وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه. وحرَّم عليهم كسبَ المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبَه بالسَّلَم. وحرَّم عليهم في الصيام وطءَ نسائهم، وعوَّضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلًا، فسهَّل عليهم تركَه بالنهار. وحرَّم عليهم الزنا، وعوَّضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاؤوا، فسهّل عليهم تركَه غاية التسهيل. وحرَّم عليهم الاستقسامَ بالأزلام، وعوَّضهم عنه بالاستخارة ودعائها، ويا بُعدَ ما بينهما! وحرَّم عليهم نكاح أقاربهم، وأباح لهم منه بناتِ العَمِّ والعَمَّةِ والخالِ والخالة. وحرَّم عليهم وطءَ الحائض، وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كلَّ شيء إلا الوطَء، فسهَّل عليهم تركَه غاية السهولة.

وحرَّم عليهم الكذبَ، وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج مَن عَرَفها إلى الكذب معها البتة، وأشار إلى هذا بقوله: "إنَّ في المعاريض مندوحةً عن الكذب". وحرم عليهم الخيلاء بالقول والفعل، وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد. [وحرَّم عليهم كلَّ ذي ناب من السباع ومِخلَبٍ من الطير، وعوَّضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها. وبالجملة فما حرَّم عليهم خبيثًا ولا ضارًّا إلا أباح لهم طيّبًا بإزائه أنفعَ لهم منه. ولا أمرَهم بأمرٍ إلا وأعانهم عليه، فوَسِعَتهم رحمتُه، ووَسِعَهم تكليفُه.

والمقصود: أنه أباح للنساء ــ لضعف عقولهن وقلة صبرهن ــ الإحدادَ على موتاهن ثلاثة أيام. وأما الإحداد على الأزواج، فإنه تابع للعِدَّة وهو من مقتضياتها ومكمِّلاتها، فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزيُّن والتجمُّل والتعطُّر، لتتحبَّب إلى زوجها، وتردَّ نفسَه، ويحسن ما بينهما من العشرة. فإذا مات الزوج، واعتدَّت منه، وهي لم تصل إلى زوج آخر= فاقتضى تمامُ حقِّ الأول وتأكيدُ المنع من الثاني قبل بلوغ الكتابِ أجلَه أن تُمنَع مما تصنعه النساء لأزواجهن؛ مع ما في ذلك من سدِّ الذريعة إلى طمعها في الرجال، وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيُّب. فإذا بلغ الكتابُ أجلَه صارت محتاجةً إلى ما يرغِّب في نكاحها، فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج. فلا شيءَ أبلغُ في الحسن من هذا المنع والإباحة، ولو اقترحت عقولُ العالمين لم تقترح شيئًا أحسنَ منه.


إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 493 – 497 ط عطاءات العلم)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله