أشق الصبر على النفوس

مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد؛ فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كان الصبر عنه أشقّ شيء على الصابر، وإن فُقدا معاً سهُل الصبر عنه، وإن وُجد أحدهما وفُقد الآخر سهُل الصبر من وجه صعب من وجه؛ فمن لا داعي له إلى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هو سهل عليه فصبره عنه من أيسر شيء عليه وأسهله، ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه فعله فصبره عنه أشق شيء عليه، ولهذا كان صبر السلطان عن الظلم، وصبر الشباب عن الفاحشة، وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكان.

وفي المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" ولذلك استحق السبعة المذكورين في الحديث الذين يُظلّهم الله في ظِلّ عرشه لكمال صبرهم ومشقته؛ فإن صبر الإمام المتسلط على العدل في قسمه وحكمه ورضاه وغضبه، وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه، وصبر الرجل على ملازمة المسجد، وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حتى عن بعضه، وصبر المدعو إلى الفاحشة مع كمال جمال الداعي ومنصبه، وصبر المتحابّين في الله على ذلك في حال اجتماعهما وافتراقهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذلك وعدم اظهاره للناس من أشق الصبر، ولهذا كانت عقوبة الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المختال أشد العقوبة لسهولة الصبر عن هذه الأشياء المحرمات عليهم لضعف دواعيها في حقهم فكان تركهم الصبر عنها مع سهولته عليهم دليلا على تمردّهم على الله وعتُّوهم عليه.

ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما؛ فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضا وتصريحا وحكاية كلام الناس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذلك، فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أمسك عليك لسانك" فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به فقال صلى الله عليه وسلم: "وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"، ولا سيما إذا صارت المعاصي اللسانية معتادة للعبد؛ فإنه يعز عليه الصبر عنها.

ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورّع من استناده إلى وسادة حرير لحظة واحدة ويطلق لسانه في الغيبة والنميمة والتفكّه في أعراض الخلق، وربما رخّص أهل الصلاح والعلم بالله والدين والقول على الله ما لا يعلم، وكثير ممن تجده يتورع عن الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام؛ كما يحكى أن رجلا خلا بامرأة أجنبية فلما أراد مواقعتها قال: يا هذه غطّي وجهك فإن النظر إلى وجه الأجنبية حرام.

وقد سأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض فقال: انظروا إلى هؤلاء يسألوني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله.

واتفق لي قريب من هذه الحكاية: كنت في حال الإحرام فأتاني قوم من الأعراب المعروفين بقتل النفوس والإغارة على الأموال يسألوني عن قتل المحرم القمل، فقلت: يا عجبا لقوم لا يتورعون عن قتل النفس التي حرم الله قتلها ويسألون عن قتل القملة في الإحرام.

والمقصود أن اختلاف شدة الصبر في أنواع المعاصي وآحادها يكون باختلاف داعِيه إلى تلك المعصية في قوتها وضعفها.

ويذكر عن على رضى الله عنه أنه قال: الصبر ثلاثة: فصبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية؛ فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة، ومن صبر على الطاعة حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له ستمائة درجة، ومن صبر عن المعصية خوفا من الله ورجاء ما عنده كتب الله له تسعمائة درجة.

وقال ميمون بن مهران: الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية.

وقال الفضيل في قوله تعالى: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) [الرعد: 24] ثم قال صبروا على ما أمروا به وصبروا عما نهوا عنه؛ وكأنه جعل الصبر على المصيبة داخلا في قسم المأمور به والله أعلم.


عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 69 - 71)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله