الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه

‌‌الباب الخامس والعشرون: في بيان الأمور المضادة للصبر والمنافية له والقادحة فيه

لما كان الصبر حبسَ اللسان عن الشكوى إلى غير اللَّه، والقلب عن التسخط، والجوارح عن اللطم وشقّ الثياب ونحوها، كان ما يضاده واقعًا على هذه الجملة.

فمنه الشكوى إلى المخلوق، فإذا شكا العبد ربه إلى مخلوق مثله فقد شكا من يرحمه إلى من لا يرحمه، ولا تضاده الشكوى إلى اللَّه كما تقدم من شكاية يعقوب إلى اللَّه مع قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف: 18، 83].

وأما إخبار المخلوِق بالحال، فإن كان للاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرَرِه لم يقدح ذلك في الصبر، كإخبار المريض بشَكاتِه، وإخبار المظلوم لمن ينتصر به بحاله، وإخبار المبتلى ببلائه لمن يرجو أن يكون فرجه على يديه.

وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دخل على المريض يسأله عن حاله ويقول: "كيف تجدك"، وهذا استخبار منه واستعلام لحاله.

وأما الأنين فهل يقدح في الصبر، فيه روايتان عن الإمام أحمد.

قال أبو الحسين: أصحهما الكراهة؛ لما روي عن طاوس: أنه كان يكره الأنين في المرض. وقال مجاهد: كل شيء يكتب على ابن آدم مما يتكلم به حتى أنينه في مرضه. قال هؤلاء: ولأن الأنين شكوى بلسان الحال ينافي الصبر.

وقال عبد اللَّه بن أحمد: قال لي أبي في مرضه الذي تُوفي فيه: أخرج إلى كتاب عبد اللَّه بن إدريس فأخرجت الكتاب، فقال: أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم فأخرجت أحاديث ليث، فقال: اقرأ عليّ حديث ليث. قال: قلت لطلحة: إن طاووسًا كان يكره الأنين في المرض، فما سُمع له أنين حتى مات. فما سمعت أبي أنَّ في مرضه ذلك إلى أن توفي.

والرواية الثانية: أنه لا يكره، ولا يقدح في الصبر.

قال بكر بن محمد عن أبيه: سئل أحمد عن المريض يشكو ما يجد من الوجع؟ فقال: تعرف فيه شيئًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم حديث عائشة "وارأساه!" وجعل يستحسنه.

قال المروذي: دخلت على أبي عبد اللَّه وهو مريض، فسألته فتغرغرت عينه، وجعل يخبرني ما مرّ به في ليلته من العلة.

والتحقيق: أن الأنين على قسمين: أنين شكوى فيكره. وأنين استراحة وتفريج فلا يكره، واللَّه أعلم.

وقد روي في أثر: "إن المريض إذا بدأ بحمد اللَّه ثم أخبر بحاله لم يكن شكوى".

وقال شقيق البلخي: "من شكا مصيبة نزلت به إلى غير اللَّه لم يجد في قلبه لطاعة اللَّه حلاوة أبدًا".

والشكوى نوعان:

شكوى بلسان القال، وشكوى بلسان الحال ولعلها أعظمها، ولهذا أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أنعم عليه أن يظهر أثر نعمة اللَّه عليه، وأعظم من ذلك من يشتكي ربه وهو بخير، فهذا أمقت الخلق عند ربه.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد اللَّه بن يزيد حدثنا كهمس عن عبد اللَّه بن شقيق قال: قال كعب الأحبار: "إن من حسن العمل سبحة الحديث، ومن شر العمل التجديف". قيل لعبد اللَّه: ما سُبحة الحديث؟ قال: سبحان اللَّه وبحمده في خلال الحديث. قيل: فما التجديف؟ قال: يصبح الناس بخير، فيُسألون، فيزعمون: أنهم بشرّ.

ومما ينافي الصبر: شقّ الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، وحلق الشعر، والدعاء بالويل، ولهذا برئ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ممن سلق وحلق وخرق.

سلق: رفع صوته عند المصيبة، وحلق رأسه، وخرق ثيابه ولا ينافيه البكاء والحزن، قال تعالى عن يعقوب: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف: 84]. قال قتادة: "كظم على الحزن، فلم يقل إلا خيرًا".

وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ما كان من العين ومن القلب فمن اللَّه والرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان".

وقال هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من بثّ فلم يصبر".

وقال خالد بن أبي عثمان: مات ابن لي فرآني سعيد بن جبير مقنّعًا، فقال: "إياك والتقنع؛ فإنه من الاستكانة".

وقال بكر بن عبد اللَّه المزني: "كان يُقال: من الاستكانة الجلوس في البيت بعد المصيبة".

وقال عبيد بن عمير: "ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيّئ والظن السيّئ".

ومات ابن لبعض قضاة البصرة، فاجتمع إليه العلماء والفقهاء، فتذاكروا ما يتبيّن به جزع الرجل من صبره، فأجمعوا: أنه إذا ترك شيئًا مما كان يصنعه فقد جزع.

وقال الحسين بن عبد العزيز الجروي: مات ابن لي نفيس، فقلت لأمه: اتقي اللَّه واحتسبيه واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.

وقال عبد اللَّه بن المبارك: أتى رجل يزيدَ بن يزيد وهو يصلي، وابنه في الموت، فقال: ابنك يقضي وأنت تصلي؟ فقال: إن الرجل إذا كان له عمل يعمله، فتركه يومًا واحدًا كان ذلك خللًا في عمله.

وقال ثابت: أصيب عبد اللَّه بن مطرف بمصيبة فرأيته أحسن شيء شارة وأطيبه ريحًا، فذكرت له ما رأيت منه، فقال: تأمرني يا أبا محمد أن أستكين للشيطان، وأريه أنه قد أصابني سوء، واللَّه يا أبا محمد لو كانت لي الدنيا كلها ثم أخذها مني، ثم سقاني شربة يوم القيامة ما رأيتها ثمنًا لتلك الشربة.

ومما يقدح في الصبر: إظهار المصيبة والتحدث بها، وكتمانها رأس الصبر.

قال الحسن بن الصباح في مسنده: حدثنا خلف بن تميم حدثنا زافر بن سليمان عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة، وذكر أنه من بثّ لم يصبر".

وروي من وجه آخر عن أنس يرفعه: "من كنوز البر كتمان المصائب وما صبر من بثّ".

ولما نزل في إحدى عيني عطاء الماء، مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله، حتى جاء ابنه يومًا من قبل عينه، فعلم أن الشيخ قد أصيب.

ودخل رجل على داود الطائي في فراشه فرآه يزحف، فقال: إنا للَّه وإنا إليه راجعون. فقال: مه لا تُعلم بهذا أحدًا. وقد أُقعد قبل ذلك بأربعة أشهر لم يعلم بذلك أحد.

وقال مغيرة: شكا الأحنف إلى عمه وجع ضرسه، فكرر ذلك عليه، فقال: ما تكرر على، لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة فما شكوتها إلى أحد.

ويضاد الصبر الهلع، وهو: الجزع عند ورود المصيبة، والمنع عند ورود النعمة قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) [المعارج: 19 - 21].

وهذا تفسير الهلوع قال الجوهري: الهلع: أفحش الجزع، وقد هلِع بالكسر، فهو هَلِعٌ وهلوع، وفي الحديث: "شر ما في العبد شحٌّ هالع، وجبن خالع".

قلت: هنا أمران: أمر لفظي. وأمر معنوي.

فأما اللفظي: فإنه وَصَف الشح بكونه هالعًا والهالع صاحبه، وأكثر ما يُسمى هلوعًا، ولا يُقال: هالع له؛ فإنه لا يتعدى، ففيه وجهان:

أحدهما: أنه على النسب، كقولهم: ليل نائم، وسرٌّ كاتم، ونهار صائم، ويوم عاصف، كله عند سيبويه على النسب، أي: ذو كذا، كما قالوا: تامر، ولابن.

والثاني: أن اللفظة غُيّرت عن بابها للازدواج مع خالع، وله نظائر.

وأما المعنوي: فهو أن الشحّ والجبن أردأ صفتين في العبد، ولا سيما إذا كان شحه هالعًا، أي: مُلق له في الهلع، وجبنه خالعًا، أي: قد خلع قلبه من مكانه، فلا سماحة ولا شجاعة، لا نفع بماله ولا ببدنه، كما يُقال: لا طعنة ولا جفنة، ولا يطرد ولا يثرد، بل قد قمعه وصغّره وحقّره ودسّاه الشخ والخوف والطمع والفزع.

وإذا أردت معرفة الهلوع، فهو الذي إذا أصابه الجوع أظهر الاستجاعة وأسرع بها، وإذا أصابه الألم أسرع الشكاية، وإذا أصابه القهر أظهر الاستضامة والاستكانة وباء بها سريعًا.

وإذا أصابه الوجع أسرع الانطراح على جنبه، وأظهر الشكاية. وإذا بدا له مأخذ طمع طار إليه سريعًا. وإذا ظفر به أحلّه من نفسه محل الروح فلا احتمال ولا إفضال، وهذا كله من صغر النفس ودناءتها، وتدسيتها في البدن وإخفائها وتحقيرها، واللَّه المستعان.


عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين - ط عطاءات العلم (1/ 523 - 531)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله