فوائدُ إخفاء ‌الدُّعاء

وفي ‌إخفاء ‌الدُّعاء ‌فوائدُ عديدة:

أحدها: أنه أعظمُ إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمعُ دعاءَه الخَفِيَّ، وليس كالذي قال: إن الله يسمَعُ إن جَهَرْنا، ولا يسمعُ إن أخفينا.

وثانيها: أنه أعظمُ في الأدب والتعظيم، ولهذا لا تُخاطبُ الملوِكُ ولا تُسألُ برفع الأصوات، وإنما تُخفضُ عندَهم الأصواتُ، ويُخْفى عندَهم الكلامُ بمقدار ما يسمعوه، ومن رفع صوته لديهم مَقَتُوهُ، ولله المثلُ الأعلى، فإذا كان يسمعُ الدّعاء الخَفِيَّ فلا يليقُ بالأدب بين يديه إلاّ خفض الصوت به.

وثالثها: أنه أبلغُ في التَّضَرُّع والخُشوع الذي هو رُوحُ الدعاء وَلُبُّهُ ومقصودُهُ، فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسألُ مسألةَ مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلَّت جوارحُه، وخشع صوتُه، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته، وكسرته وضراعته، إلى أن ينكسر لسانُه، فلا يُطاوعه بالنطق، فقلبُه سائل طالب مبتهل، ولسانُه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت، وهذه الحال لا يتأتَّى معها رفع الصوت بالدُّعاء أصلًا.

ورابعها: أنه أبلغُ في الإخلاص.

وخامسها: أنه أبلغُ في جمعِيَّة القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رَفْع الصوت يُفَرِّقه ويشتِّته، فكلما خفضَ صوتَه كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعوِّ سبحانه وتعالى.

وسادسها -وهو من النكت السرِيَّة البديعة جدًّا-: أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأل مسألةَ: أقربَ شيءٍ إليه، فيسأله مسألةَ مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد.

ولهذا أثنى الله سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}، فكلما استحضرَ القلبُ قربَ الله تعالى منه، وأنه أقربُ إليه من كلِّ قريبٍ، وتصوَّر ذلك = أخفى دعاءَه ما أمكنه، ولم يَتَأَتَّ له رفعُ الصوتِ به، بل يراه غيرَ مستحسن، كما أن من خاطبَ جليسًا له يسمع خَفِيَّ كلامه، فبالغ في رفع الصوتِ استهجن ذلك منه -ولله المثل الأعلى سبحانه - وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح، لما رفِع الصحابةُ أصواتَهم بالتكبير وهم معه في السفر، فقال: "ارْبعوا عَلى أنْفُسِكُمْ، إنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائبًا، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أَقْرَبَ إلىَ أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُق راحِلتِهِ"، وقد قال: تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

وقد جاء أن سببَ نزولها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله رَبُّنا قريبٌ فَنُنَاجِيَهُ، أم بعيدٌ فنُنَادِيَهُ، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].

وهذا يدلُّ على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت، فإنهم عن هذا سألوا، فأُجيبوا بأنَّ ربَّهم تبارك وتعالى قريبٌ لا يحتاجُ في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يُسْأَلُ مسألةَ القريب المُنَاجَى لا مسألةَ البعيد المنَادَى، وهذا القربُ من الدَّاعي هو قربٌ خاصٌ ليس قُرْبًا عامًّا من كلِّ أحدٍ، فهو قريبٌ من داعيه وقريبٌ من عابده، وأقرب ما يكون العبدُ من رَبِّه وهو ساجِدٌ، وهو أخصُّ من قربِ الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يُثْبِتْ أكثرُ المتكلمينَ سواه، بل هو قُرْبٌ خاصٌّ من الدَّاعى والعابد، كمَا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم راويًا عن ربِّه تبارك وتعالى: "مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا"، فهذا قربُهُ من عابدِه.

وأما قربُهُ من داعيه وسائلِهِ، فكما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، فيه الإشارةُ والإعلامُ بهذا القُرْب.

وأما قربُهُ تبارك وتعالى من مُحِبِّهِ فنوعٌ آخَرُ، وبناءٌ آخر، وشأنٌ آخر، كما قد ذكرناه في كتاب "التحفة المكية"، على أن العبارةَ تَنْبو عنه، ولا تحصلُ في القلب حقيقةُ معناه أبدًا، لكن بحسب قوَّة المحبَّةِ وضعفِها يكونُ تصديق العبد بهذا القرب، وإيَّاكَ ثم إيَّاكَ أن تعبِّرَ عنه بغير العبارة النبوِية، أوْ يَقَعَ في قلبِك غيرُ معناها ومرادها، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بعد ثبُوتِها. وقد ضعُفَ تمييزُ خلائِقَ في هذا المقام، وساء تعبيرُهم، فوقعوا في أنواع من الطَّامَّاتِ والشطح، وقابلهم من غَلُظ حجابُه فأنكر محبَّةَ العبدِ لربِّه جملةً، وقربَهُ منه، وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق، فهو عنده المحبوب القريب ليس إلاّ.

وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهؤلاء في كتاب "التحفة" أكثر من مائة طريق، والمقصود هاهنا الكلام على هذه الآية.

وسابعها: أنَّه أَدْعَى إلى دوام الطلب والسؤال، فإنَّ اللِّسان لا يَمَلُّ والجوارحُ لا تتعبُ، بخلاف ما إذا رفع صوتَهُ به، فإنه قد يَكِلُّ لسانُه وتضعفُ بعضُ قواه، وهذا نظيرُ من يقرأُ ويُكَرِّر رافعًا صوتَهُ، فإنه لا يطولُ له ذلك بخلاف من يخفضُ صوتَه.

وثامنها: أن إخفاءَ الدُّعاء أبعد له من القواطع والمشَوِّشاتِ والمُضعِّفَاتِ، فإن الدَّاعِيَ إدْا أخفى دعاءَهُ لم يَدْرِ به أحدٌ، فلا يحصلُ هناك تشويشٌ ولا غيرُه، وإذا جَهَرَ به تفطَّنتْ له الأرواحُ الشِّرِّيرةُ والباطوليَّةُ والخبيثة من الجِنِّ والإنس، فشوَّشت عليه ولا بُدَّ، ومانَعَتْهُ وعارضتْه، ولو لم يكن إلا أن تعلُّقَها به يفَرِّقُ عليه هِمَّتَه فيضعفُ أثرَ الدعاءِ، ومن له تجرِبَةٌ يعرفُ هذا، فإذا أَسَرَّ الدعاءَ وأخفاه أَمِنَ هذه المفسدةَ.

وتاسعها: أن أعظمَ النِّعَمِ: الإقبالُ على الله، والتَّعَبُّد له، والانقطاعُ إليه، والتَّبتُّل إليه، ولكلِّ نعمةٍ حاسدٌ على قَدْرِها دقَّتْ أو جَلَّتْ، ولا نعمةَ أعظمُ من هذه النعمة، فأَنفُسُ الحاسدينَ المنقطعينَ متعلِّقَةٌ بها، وليس للمحسودِ أسلمُ من إخفاء نعمتِهِ عن الحاسد، وأن لا يقصدَ إظهارَها له.

وقد قال يعقوب ليوسف: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] وكم من صاحب قلب وجمعية وحال معِ الله قد تحدَّثَ بها وأخبر بها، فسلبه إيَّاها الأغيارُ، فأصبح يقلِّبُ كفَّيه، ولهذا يوصي العارفون والشيوخُ بحفظ السِّرِّ مع الله، وأن لا يُطْلِعوا عليه أحدًا، ويتكتَّمون به غايةَ التَّكَتُّم، كما أنشد بعضُهم في ذلك:

من سَارَرُوه فأبدى السِّرَّ مجتهدًا … لم يأمَنْوه على الأسرارِ ما عاشا

وأبعدوه فلم يظفرْ بِقُرْبِهمُ … وأبدلوه مكانَ الأُنْسِ إيحَاشا

لا يأمنونَ مُذِيعًا بَعْضَ سِرِّهِمُ … حاشا وِدادِهِمُ من ذلكمْ حاشا

والقومُ أعظمُ شيءٍ كِتمانًا لأحوالهم مع الله، وما وهب الله لهم من محبَّته، والأنس به، وجمعيَّة القلبِ عليه، ولا سيَّما للمبتدئ والسالك، فإذا تمكَّن أحدُهم وقوِيَ وثبتَتْ أصولُ تلك الشجرة الطيِّبة، التي أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء في قلبه، بحيث لا يُخشى عليه من العواصف، فإنه إذا أبدى حالَه وشأنه مع الله لِيُقْتَدَى به ويُؤْتَمَّ به لم يُبَالِ. وهذا بابٌ عظيمُ النفع إنما يعرفُهُ أهله.

وإذا كان الدُّعاء المأمورُ بإخفائه يتضمَّن دعاءَ الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله، فهو عن أعظم الكنوز التي هي أحقُّ بالإخفاء والسِّتْر عن أعين الحاسدين، وهذه فائدةٌ شريفة نافعة.

وعاشرها: أن الدعاء هو ذكرٌ للمدعوِّ سبحانه، متضمِّنٌ للطَّلَب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذِكْر وزيادة، كما أن الذكر يسمَّى دعاءً لتضمُّنه الطَّلَبَ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الحَمدُ للهِ" فسمَّى "الحمدُ لله" دعاءً، وهو ثناء محضٌ؛ لأن الحمد يتضمَّنُ الحبَّ والثناء، والحبُّ أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامدُ طالب لمحبوبه، فهو أحقُّ أن يسمَّى داعيًا من السائل الطالب من ربِّه حاجةً ما، فتأمَّلْ هذا الموضعَ ولا تحتاج إلى ما قيل: إن الذاكرَ متعرِّضٌ للنوال، وإن لم يكن مصرِّحًا بالسؤال، فهو داعٍ بما تضمَّنَهُ ثناؤُه من التَّعَرُّض، كما قال أُمَيَّة بن أبي الصَّلْت:

أَأَذْكُرُ حاجَتِي أمْ قدْ كَفَانِي … حَيَاؤُكَ إنَّ شِيْمَتَكَ الحَيَاءُ

إذا أَثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمًا … كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّناءُ

وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفسُ الحمد والثناء متضمِّنٌ لأعظم الطَّلَب، وهو طلب المحب، فهو دعاءٌ حقيقة، بل أحقُّ أن يسمَّى دعاءً من غيره من أنواع الطَّلَب الذي هو دونه، والمقصود أنَّ كلَّ واحد من الدُّعاء والذكر يتضمَّنُ الآخرَ ويدخلُ فيه، وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] فأمر تعالى نَبيَّهُ أن يذكَرَهُ في نفسه.

قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت والصياح. وقد تقدم حديث أبي موسى: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال: "يا أيّها النَّاسُ ارْبَعُوا على أنفُسِكُمْ، فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمَّ ولا غَائِبًا، إنما تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أقْرَبَ إلى أحدِكُمْ من عُنُق راحلتِهِ".


بدائع الفوائد - ط عطاءات العلم (3/ 842 - 849)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله