وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات/ 56]، فأخبر سبحانه أنَّ الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبّته.
وهو سبحانه كما أنَّه يحب أن يُعبَد، يحبّ أن يُحمَد، ويُثنَى عليه، ويذكَر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من اللَّه، ومن أجل ذلك أثنَى على نفسه". وفي المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسولَ اللَّه، إنّي حمدتُ ربّي بمحامد. فقال: "إنّ ربّك يحبّ الحمد". فهو يحبّ نفسه، ومن أجل ذلك يثني على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدّس نفسه، ويحبّ من يحبّه ويحمده ويثني عليه. بل كلّما كانت محبّةُ عبدِه له أقوى كانت محبّة اللَّه له أكمل وأتمّ. فلا أحدَ أحبُّ إليه ممن يحبّه، ويحمده، ويثني عليه.
ومن أجل ذلك كان الشركُ أبغضَ الأشياءِ إليه لأنّه ينقص هذه المحبّة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به. ولهذا لا يغفر اللَّه أن يُشرَك به؛ لأنَّ الشرك يتضمّن نقصان هذه المحبّة، والتسوية فيها بينه وبين غيره. ولا ريب أنّ هذا من أعظم ذنوب المحبّ عند محبوبه التي ينقص بها من عينه، وتنحطّ بها مرتبتُه عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل ربّ العالمين أن يُشرَك بينه وبين غيره في المحبّة، والمخلوق لا يحتمل ذلك، ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبّه أبدًا. وعساه أن يتجاوز لمحبّه عن غيره من الهفوات والزلّات في حقّه، ومتى علم بأنّه يحِبّ غيره كما يحبُّه لم يغتفر له هذا الذنب ولم يقرِّبْه إليه. هذا مقتضى الطبيعة والفطرة. أفلا يستحيي العبد أن يسوّي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبوديّة والمحبّة؟
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة/ 165]. فأخبر سبحانه أنّ من أحبّ شيئًا دون اللَّه كما يحبّ اللَّهَ، فقد اتّخذه ندًّا. وهذا معنى قول المشركين في النَّار لمعبوديهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء/ 97 - 98]. فهذه تسوية في المحبَّة والتألُّه، لا في الذات والأفعال والصفات.
والمقصود أنَّه سبحانه يحبّ نفسَه أعظمَ محبَّة، ويحبُّ من يحبّه. وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعدَّ الثواب والعقاب لأجل ذلك. وهذا هو محض الحقِّ الذي به قامت السماوات والأرضِ، وكان الخلق والأمر. فإذا قامَ به العبدُ فقد جاء منه الأمر الذي خُلِقَ له، فرضيَ عنه صانعه وبارئه وأحبَّه، إذ كان كما يحب ويرضى.
فإذا صدف عن ذلك، وأعرض عنه، وأبق عن مالكه وسيّده؛ أبغضه ومقته، لأنَّه خرج عمَّا خُلِقَ له، وصار إلى ضدِّ الحال التي هُيِّئ لها، فاستوجب منه غضبه بدلًا من رضاه، وعقوبته بدلًا من رحمته. فكأنَّه استدعى من ربِّه أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحبّ، فإنَّه سبحانه عفوٌّ يحبُّ العفو، محسنٌ يحبّ الإحسان، جوادٌ يحبُّ الجود، سبقت رحمتُه غضبَه. فإذا أبقَ منه العبدُ، وخامرَ عليه ذاهبًا إلى عدوِّه، فقد استدعى منه أن يجعل غضبَه غالبًا على رحمته، وعقوبَته على إحسانه؛ وهو سبحانه يحبُّ من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربِّه فعلَ ما غيرُه أحبُّ إليه منه.
وهو بمنزلة عبد السَّوءِ الذي يحمل أستاذَه من المخلوقين المحسنَ إليه، الذي طبيعتُه الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيّته. فأستاذه يحب بطبعه الإحسان، وهو بإساءته ولؤمه يُكلِّفه ضدَّ طباعه، ويحمله على خلاف سجيته. فإذا راجع هذا العبدُ ما يحبُّ سيّدُه، ورجع إليه، وأقبل عليه، وأعرض عن عدوِّه، فقد صار إلى الحالِ التي تقتضي محبَّة سيّده له وإنعامه عليه وإحسانَه إليه، فيفرح به -ولا بُدَّ- أعظمَ فرح، وهذا الفرحُ هو دليلٌ على غاية الكمال والغنى والمجد.
فليتدبّر اللبيبُ وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجدْ في طيِّه من المعارف الإلهية ما لا تتّسع له إلا القلوب المهيّأة لهذا الشأن المخلوقةُ له. وهذا فرحُ محسن برّ لطيف جواد غني حميد، لا فرَحُ محتاجٍ إلى حصول ما يفرح به، مستكمل به، مستفيد له من غيره. فهو عين الكمالِ، لازم للكمال، ملزوم له.
طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم (2/ 522 - 526)