الحكمة والتعليل والأسباب وتنزيه الله تعالى عن الظلم

فصل عظيم النفع

الجهال بالله وأسمائه وصفاته، المعطلون لحقائقها؛ يُبغِّضون اللهَ إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريقَ محبته والتودُّدِ إليه بطاعته من حيث لا يعلمون.

ونحن نذكر من ذلك أمثلة تَحتذي عليها:

فمنها: أنهم يُقرِّرون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعةٌ وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهرهِ وباطنه، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمنٍ من مكره، بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار، ويُقلِّب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر.

ويروون في ذلك آثارًا صحيحة لم يفهموها، وباطلة لم يَقُلْها المعصوم، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد، ويتلون على ذلك قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، وقوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَينَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24]، ويقيمون إبليس حجة لهم على هذه المعرفة، وأنه كان طاووس الملائكة، وأنه لم يترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة أو ركعة، لكن جَنَى عليه جاني القدر وسَطَا عليه الحكم، فقلبَ عينَه الطيبة وجعلها أخبثَ شيء، حتى قال بعض عارفيهم: إنك ينبغي أن تخاف الله كما تخاف الأسدَ الذي يَثِبُ عليك بغير جرم منك ولا ذنبٍ أتيتَه إليه!! ويَحتجُّون بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم ليعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيَسبِق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها" ، ويروون عن بعض السلف: أكبر الكبائر: الأمن من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله . وذكر الإمام أحمدُ عن عون بن عبد الله أو غيره؛ أنه سمع رجلًا يدعو: اللهم! لا تُؤمِنِّي مكرَك! فأنكر ذلك وقال: قُلْ: اللهم لا تجعلني ممَّن يأمن مكرَك.

وبنوا هذا على أصلهم الباطل، وهو إنكارُ الحكمة والتعليل والأسباب، وأن الله لا يفعل لحكمةٍ ولا بسبب، وإنما يفعل بمشيئة مجردةٍ من الحكمة والتعليل والسبب؛ فلا يفعل لشيءٍ ولا بشيءٍ، وأنه يجوزُ عليه أن يُعذِّب أهل طاعته أشدَّ العذاب، ويُنعم أعداءه وأهل معصيته بجزيل الثواب، وأن الأمرين بالنسبة إليه سواءٌ، ولا يُعلَم امتناعُ ذلك إلا بخبر من الصادق أنه لا يفعله؛ فحينئذٍ يُعلَم امتناعُهُ؛ لوقوع الخبر بأنه لا يكون، لا لأَنَّه في نفسه باطلٌ وظلمٌ؛ فإن الظلم في نفسه مستحيلٌ؛ فإنه غير ممكن، بل هو بمنزلة جعل الجسم الواحد في مكانين في آنٍ واحدٍ، والجمع بين الليل والنهار في ساعةٍ واحدةٍ، وجعل الشيء موجودًا معدومًا معًا في آنٍ واحد؛ فهذا حقيقةُ الظُّلم عندهم.

فإذا رجع العامل إلى نفسه قال: من لا يَستقرُّ له أمرٌ، ولا يُؤمَن له مكرٌ؛ كيف يُوثَق بالتقرب إليه؟! وكيف يُعوَّلُ على طاعته واتِّباع أوامره؟! وليس لنا سوى هذه المدة اليسيرة؛ فإذا هجرنا فيها اللَّذات، وتركنا الشهوات، وتكلفنا أثقال العبادات، وكُنَّا مع ذلك على غير ثقةٍ منه أن يقلب علينا الإيمان كفرًا والتوحيد شركًا والطاعة معصيةً والبِرَّ فجورًا ويُديم علينا العقوباتِ؛ كنا خاسرين في الدنيا والآخرة!!

فإذا استحكم هذا الاعتقاد في قلوبهم وتخمَّر في نفوسهم؛ صاروا إذا أُمروا بالطاعات وهَجْر اللَّذَّات بمنزلة إنسان جعل يقول لولده: معلمك إن كتبتَ وأحسنتَ وتأدبت ولم تَعصه ربما أقام لك حجةً وعاقبك، وإن كسلتَ وبطلتَ وتعطلتَ وتركتَ ما أمرك به ربما قرَّبك وأكرمك! فيُودِعُ بهذا القول قلبَ الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيدِ المعلم على الإساءة ولا وعدِه على الإحسان! وإن كبرَ الصبيُّ وصلح للمعاملات والمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا؛ يأخذُ اللصَّ من الحبس فيجعله وزيرًا أميرًا، ويأخذ الكيِّسَ المحسن لشغله فيُخلّدُهُ الحبسَ ويقتله ويصلبه! فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه، وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده، وأزال محبته من قلبه، وجعله يخافه مخافةَ الظالم الذي يأخذ المحسنَ بالعقوبة والبريء بالعذاب، فأفلسَ هذا المسكينُ من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة؛ فلا بفعل الخير يستأنس ولا بفعل الشر يستوحش!

وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟!

ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أَتوا بأكثر من هذا؟!

وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ويردُّ على أهل البدع وينصر الدين، ولعَمْر اللهِ العدوُّ العاقل أقل ضررًا من الصديق الجاهل.

وكتبُ الله المنزلة كلها ورسلُه كلهم شاهدةٌ بضد ذلك، ولا سيما القرآن؛ فلو سَلَكَ الدعاءَ المسلكَ الذي دعا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- به الناسَ إليه لصلحَ العالمُ صلاحًا لا فساد معه.
فالله سبحانه أخبر -وهو الصادق الوفيُّ- أنه إنما يُعامل الناسَ بكسبهم، ويُجازيهم بأعمالهم، ولا يَخاف المحسنُ لديه ظلمًا ولا هَضْمًا، ولا يخاف بخسًا ولا رَهَقًا، ولا يُضيّع عملَ محسن أبدًا، ولا يُضيّع على العبد مثقالَ ذرة ولا يَظلمها {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ولا يُضيعها عليه، وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويُحبِطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب، ويَجزي بالحسنة عشرَ أمثالها ويُضاعفها إلى سبع مئة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرة، وهو الذي أصلح الفاسدين، وأقبل بقلوب المعرضين، وتاب على المذنبين، وهَدى الضالين، وأنقذ الهالكين، وعلَّم الجاهلين، وبصَّر المتحيرين، وذكّر الغافلين، وآوى الشاردين، وإذا أوقع عقابًا أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه ودعوة العبد إلى الرجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة، حتى إذا أيِسَ من استجابته والإقرار بربوبيته ووحدانيته؛ أخذه ببعض كفره وعتوه وتمرده؛ بحيث يَعذِرُ العبدُ من نفسه ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه وأنه هو الظالم لنفسه.

كما قال تعالى عن أهل النار: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11].

وقال عمن أهلكهم في الدنيا: إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا: {يَاوَيلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 14 - 15].

وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها قالوا: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29].

قال الحسن: لقد دخلوا النار وإنَّ حمدهُ لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا.

ولهذا قال تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} [الأنعام: 45]؛ فهذه الجملة في موضع الحال؛ أي قُطِع دابرهم حالَ كونه سبحانه محمودًا على ذلك، فقُطِعَ دابرُهم قطعًا مصاحبًا لحمده؛ فهو قطع وإهلاكٌ يُحمَد عليه الرب تعالى لكمال حكمته وعدله ووَضْعِه العقوبةَ في موضعها الذي لا يليق به غيرها، فوضعها في الموضع الذي يقول من علم الحال: لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة.

ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار: {وَقُضِيَ بَينَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} [الزمر: 75]، فحذف فاعل القول إشعارًا بالعموم وأن الكون كله قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ} لما شاهدوا من حكمة الحقِّ وعدله وفضله، ولهذا قال في حق أهل النار: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} [الزمر: 72]، كأن الكون كلُّه يقول ذلك، حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤُهم.

وهو سبحانه يخبر أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه، ولا يَعمُّهم بالهلاك بمحض المشيئة.

ولما سأله نوح نجاةَ ابنه أخبر أنه يُغرِقه بسوء عمله وكفرِه، ولم يقل: إني أُغرِقه بمحض مشيئتي وإرادتي بلا سبب ولا ذنب!!

وقد ضَمِنَ سبحانه زيادةَ الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يُخبر أن يُضِلّهم ويُبطِل سعيَهم، وكذلك ضَمِنَ زيادة الهداية للمتقين الذين يتبعون رضوانه، وأخبر أنه لا يُضلُّ إلا الفاسقين الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه، وأنه إنما يُضلُّ من آثر الضلال واختاره على الهدى، فيطبع حينئذٍ على سمعه وقلبه، وأنه يُقلِّبُ قلبَ من لم يرضَ بهداه إذا جاءه ولم يؤمن به ودفعَه وردَّه، فيقلبُ فؤادَه وبصرَه عقوبةً له على ردِّه ودفعِه لما تحقَّقه وعَرفَه وأنه سبحانَه لو عَلِمَ في تلك المحالِّ التي حكم عليها بالضلال والشقاء خيرًا لأفهمَها وهداها، ولكنها لا تَصلُح لنعمته ولا تليق بها كرامته؛ وقد أزاح سبحانه العللَ وأقام الحججَ ومكَّن من أسباب الهداية، وأنه لا يُضلُّ إلا الفاسقين والظالمين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يُركِسُ في الفتنة إلَّا المنافقين بكسبهم، وأن الرينَ الذي غطَّى به قلوبَ الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم؛ كما قال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]، وقال عن أعدائه من اليهود: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155]، وأخبر أنه لا يُضلُّ من هداه حتى يُبين له ما يتقي، فيختار -لشقوته وسوء طبيعته- الضلالَ على الهدى والغيَّ على الرَّشاد ويكون مع نفسه وشيطانه وعدوِّ ربه عليه.

وأما المكر الذي وصفَ به نفسه؛ فهو مجازاتُهُ للماكرين بأوليائه ورسله، فيقابل مكرهم السيئ بمكره الحسن، فيكون المكر منهم أقبحَ شيءٍ، ومنه أحسن شيءٍ؛ لأنه عدلٌ ومجازاةٌ. وكذلك المخادعة منه جزاءٌ على مخادعة رسله وأوليائه. فلا أحسن من تلك المخادعة والمكر.

وأما كون الرجل "يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ فيَسبِقُ عليه الكتاب"؛ فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملًا مقبولًا صالحًا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يُبطِله عليه.

وقوله: "لم يبقَ بينه وبينها إلَّا ذراعٌ" يُشكِل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته؛ لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفةٌ كامنةٌ ونكتةٌ خُذِلَ بها في آخر عمره، فخانتْه تلك الآفةُ والداهيةُ الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملتْ عملها، ولو لم يكن هناك غشٌّ وآفةٌ لم يقلب الله إيمانه كفرًا ورِدَّةً مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سببٍ منه يقتضي إفسادَه عليه، والله يعلم من سرائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض.

وأما شأن إبليس فإن الله سبحانه قال للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]؛ فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا تعلمه الملائكة، فلما أُمِروا بالسجود ظهر ما في قلوبهم من الطاعة والمحبة والخشية والانقياد فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوِّه من الكبر والغش والحسد، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

وأما خوف أوليائه من مكره فحقٌّ؛ فإنهم يخافون أن يخذلهم بذنوبهم وخطاياهم فيصيرون إلى الشقاء؛ فخوفهم من ذنوبهم، ورجاؤهم لرحمته.

وقوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99] إنما هو في حق الفجار والكفار، ومعنى الآية: فلا يَعصِي ويأمنُ مقابلةَ الله له على مكر السيئات بمكره به إلَّا القوم الخاسرون.

و‌‌الذي يخافه العارفون بالله من مكره:

أن يؤخّر عنهم عذاب الأفعال، فيحصل منهم نوع اغترارٍ، فيأنسوا بالذُّنوب، فيجيئهم العذابُ على غِرَّةٍ وفترة.

وأمرٌ آخر: وهو أن يغفلوا عنه ويَنسَوا ذكره، فيتخلى عنهم إذا تخلَّوا عن ذكره وطاعته، فيُسرِع إليهم البلاءُ والفتنة، فيكون مكره بهم تخلّيه عنهم.

وأمرٌ آخرُ: أن يعلم من ذنوبهم وعيوبهم ما لا يعلمونه من نفوسهم، فيأتيهم المكر من حيث لا يشعرون.

وأمرٌ آخرُ: أن يمتحنهم ويبتليهم بما لا صبر لهم عليه، فيُفتنون به، وذلك مكرٌ.


الفوائد - ط عطاءات العلم (1/ 233 - 240)

  • المصدر: موقع الإمام ابن القيم رحمه الله