الوجه الثَّاني والخمسون (من أوجه الرد على قولهم: نصوص الوحي أدلةٌ لفظيةٌ، وهي لا تُفيد اليقين): أن من تأمّلَ عامة ألفاظ القرآن وجدها نصوصًا صريحةً دالةً على معناها دلالة لا تحتمل غيرها بوجهٍ من الوجوه. وهذا كأسماء الأنبياء وأسماء الأجناس وكأسماء الأعلام، وكأسمائه سبحانه التي أطلقها على نفسه، فإنها لا تصلح أن يكون المراد بها غيره البتَّةَ، ظاهرةً كانت أم مضمرة، وكأسماء يوم القيامة والجنة والنَّار وأسماء الأعداد، وذكر الثقلين وخطابهم وعامة ألفاظ القرآن. فهل يَفهَم أحدٌ قطُّ من قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اِلنَّاسِ * مَلِكِ اِلنَّاسِ * إِلَهِ اِلنَّاسِ} [النَّاس: 1 - 3] غير الله سبحانه، ومن: {اِلْوَسْوَاسِ اِلْخَنَّاسِ} [النَّاس: 4] غير الشيطان، ومن: {صُدُورِ اِلنَّاسِ} [الناس: 5] غير بني آدم؟
وهل يفهم من قوله: {قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] غير ذات ربِّ العالمين، وأنه واحدٌ لا شريكَ له، وأنه لم يُولد من غيره، ولم يلد منه غيره، وليس له من يماثله ويكافئه؟
وهل يفهم من: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] إلى آخرها غير ما دلَّتْ عليه؟
وهكذا جميع سُوَر القرآن وآياته مفيدة لليقين بالمراد منها، وإن أَشكل على كثير من النَّاس كثيرٌ من ألفاظه؛ فإن هذا لا يُخرِجه عن إفادته اليقين، ولا يسلب الأدلة اللفظية عن إفادتها اليقين. بل كل علمٍ من علوم بني آدم اليقينية القطعية تشتمل على مسائل يتيقَّنها أصحاب ذلك العلم، وهي مسلَّمة عندهم، ومجهولة عند كثيرٍ منهم، ولا يخرج ذلك العلم عن كونه يقينيًا قطعيًّا، فعَزْلُ الأدلة اللفظية جملة عن اليقين لألفاظٍ يسيرةٍ مشتبهةٍ على بعض النَّاس كعزل العلوم اليقينية القطعية عن موضوعها لمسائل يسيرةٍ فيها غير يقينية ولا قطعية.
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة - ط عطاءات العلم (1/ 436 - 435)