26 - باب اختيار الفطر (في السفر)
239/ 2300 - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يُظَلَّلُ عليه، والزحام عليه. فقال: «ليس من البِرِّ الصيامُ في السفر».
وأخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
قال ابن القيم رحمه الله: وقد احتج به من يوجب الفطر في السفر. واحتجوا بأن الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
واحتجوا أيضًا بحديث دَِحْية بن خليفة الكلبي أنه لما سافر من قريته في رمضان وذلك ثلاثة أميال أفطَر، فأفطر معه الناس، وكره ذلك آخرون، فلما رجع إلى قريته قال: «والله لقد رأيت أمرًا ما كنت أظن أني أراه، إنّ قومًا رغبوا عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه»، يقول ذلك للذين صاموا. ثم قال عند ذلك: «اللهم اقبضني إليك». رواه أبو داود وغيره.
واحتجوا أيضًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبول رخصة الفطر. فروى النسائي من حديث جابر يرفعه: «ليس من البر أن تصوموا في السفر، وعليكم برخصة الله التي رخّص لكم فاقبلوها».
واحتجوا أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم في الذين صاموا: «أولئك العصاة». رواه النسائي في قصة فطره عام الفتح.
واحتجوا أيضًا بقول عبد الرحمن بن عوف: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». رواه النسائي. ولا يصح رفعه، وإنما هو موقوف.
واحتجوا أيضًا بأن الله تعالى إنما أمر المسافر بالعدة من أيام أخر، فهي فرضه الذي أمر به، فلا يجوز غيره. وحكي ذلك عن غير واحد من الصحابة.
وأجاب الأكثرون عن هذا بأنه ليس فيه ما يدل على تحريم الصوم في السفر على الإطلاق، وقد أخبر أبو سعيد أنه صام مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح في السفر.
قالوا: وأما قوله: «ليس من البر الصيام في السفر»، فهذا خرج على شخص معين، رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظُلِّل عليه وجهده الصوم، فقال هذا القول، أي ليس البر أن يَجهد الإنسان نفسه حتى يبلغ فيها هذا المبلغ، وقد فسح الله له في الفطر. فالأخذ بعموم اللفظ الذي يدل سياق الكلام على إرادته، فليس من البر هذا النوع من الصيام المشار إليه في السفر.
وأيضًا فقوله: «ليس من البر» أي ليس هو أبر البر، لأنه قد يكون الإفطار أبرَّ منه إذا كان في حج أو جهاد يتقوَّى عليه. وقد يكون الفطر في السفر المباح برًّا، لأن الله تعالى أباحه ورخص فيه، وهو سبحانه يحب أن يؤخذ برُخَصه، وما يحبه الله فهو بر، فلم ينحصر البر في الصيام في السفر.
وتكون «مِن» على هذا زائدةً، ويكون كقوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية [البقرة: 177]، وكقولك: ما جاءني من أحد. وفي هذا نظر، وأحسن منه أن يقال: إنها ليست بزائدة، بل هي على بابها. والمعنى: أن الصوم في السفر ليس من البر الذي تظنونه وتنافسون عليه؛ فإنهم ظنّوا أن الصوم هو الذي يحبه الله ولا يحب سواه، وأنه وحدَه البر الذي لا أبرَّ منه، فأخبرهم أن الصوم في السفر ليس من هذا النوع الذي تظنونه، فإنه قد يكون الفطر أحبَّ إلى الله منه، فيكون هو البر.
قالوا: وأما كون الفطر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد به واقعة معيَّنة، وهي غزاة الفتح، فإنه صام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، فكان فطره آخر أمريه، لا أنه حرَّم الصوم. ونظير هذا قول جابر: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مسّت النار»، إنما هو في واقعة معينة دعي لطعامٍ فأكل منه، ثم توضأ وقام إلى الصلاة، ثم أكل منه وصلَّى ولم يتوضأ، فكان آخر الأمرين منه: ترك الوضوء مما مست النار. وجابر هو الذي روى هذا وهذا، فاختصره بعض الرواة، واقتصر منه على آخره، ولم يذكر جابر لفظًا من النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا آخر الأمرين مني. وكذلك قصة الصيام، وإنما حكوا ما شاهدوه أنه فعل هذا وهذا، وآخرهما منه الفطر وترك الوضوء. وإعطاء الأدلة حقها يزيل الاشتباه والاختلاف عنها.
وأما قصة دحية بن خليفة الكلبي، فإنما أنكر فيها على من صام رغبةً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وظنًّا أنه لا يسوغ الفطر، ولا ريب أن مثل هذا قد ارتكب منكرًا، وهو عاصٍ بصومه.
والذين أمروهم الصحابة بالقضاء وأخبروا أن صومهم لا يُجزئهم هم هؤلاء، فإنهم صاموا صومًا لم يشرعه الله، وهو أنهم ظنوا أنه حَتْم عليهم كالمقيم، ولا ريب أن هذا حكم لم يشرعه الله، فلم يمتثلوا ما أمروا به من الصوم، فأمرهم الصحابة بالقضاء. هذا أحسن ما حُمِل عليه قول من أفتى بذلك من الصحابة، وعليه يحمل قول من قال منهم: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر». وهذا من كمال فقههم، ودقة نظرهم رضي الله عنهم.
قالوا: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها»، فهذا يدل على أن قبول المكلف لرخصة الله واجب، وهذا حق، فإنه متى لم يَقبل الرخصة ردّها ولم يرَها رخصة، وهذا عدوان منه ومعصية، ولكن إذا قبلها، فإن شاء أخذ بها، وإن شاء أخذ بالعزيمة. هذا مع أن سياق الحديث يدل على أن الأمر بالرخصة لمن جهده الصوم وخاف على نفسه، ومثل هذا يؤمر بالفطر. فعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في ظل شجرة يُرَشُّ عليه الماء، قال: «ما بال صاحبكم هذا؟» قالوا: يا رسول الله صائم. قال: «إنه ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها» رواه النسائي.
قالوا: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة» فذاك في واقعة معيَّنة، أراد منهم الفطر فخالفه بعضهم فقال هذا. ففي النسائي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كُراع الغَمِيم، فصام الناس معه، فبلغه أن الناس شقَّ عليهم الصيام، فدعا بقَدَح من ماءٍ بعد العصر فشرب، والناس ينظرون، فأفطر بعض الناس وصام بعض، فبلغه أن ناسًا صاموا فقال: «أولئك العصاة».
فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أفطر بعد العصر ليقتدوا به، فلمّا لم يقتدِ به بعضهم قال: «أولئك العصاة» ولم يُرِد بذلك تحريم الصيام مطلقًا على المسافر. والدليل عليه ما روى النسائي أيضًا عن أبي هريرة قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم[بطعام] بمَرِّ الظَّهْران، فقال لأبي بكر وعمر: «أَدْنِيا، فكلا»، فقالا: إنا صائمان، فقال: «ارْحَلُوا لصاحبَيكم، اعملوا لصاحبَيكم!»، وأعله بالإرسال. ومر الظهران أدنى إلى مكة من كُراع الغميم، فإن كراع الغميم بين يدي عُسفان بنحو ثمانية أميال، وبين عسفان ومكة ستة وثلاثون ميلًا.
قالوا: وأما احتجاجكم بالآية، وأن الله أمر المسافر بالعدّة، فهي فرضه الذي لا يجوز غيره= فاستدلال باطل قطعًا، فإن الذي أنزلت عليه هذه الآية، وهو أعلم الخلق بمعناها والمراد منها، قد صام بعد نزولها بأعوام في السفر، ومحال أن يكون المراد منها ما ذكرتم، ولا يعتقده مسلم، فعلم أن المراد بها غير ما ذكرتم.
فإما أن يكون المعنى: فأفطَرَ فعدة من أيام أخر، كما قال الأكثرون؛ أو يكون المعنى: فعدة من أيام أخر تجزئ عنه وتُقبَل منه، ونحو ذلك. فما الذي أوجب تعيين التقدير بأنَّ عليه عدة من أيام أخر، أو ففَرْضُه، ونحو ذلك؟
وبالجملة فَفِعْل من أنزلت عليه يفسِّرها ويبيّن المراد منها، وبالله التوفيق.
وهذا موضع يَغْلَط فيه كثير من قاصري العلم، يحتجّون بعموم نص على حكم، ويغفُلون عن عمل صاحب الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده، ومن تدبر هذا علم به مراد النصوص وفهم معانيها.
وكان يدور بيني وبين المكيين كلام في الاعتمار من مكة في رمضان وغيره، فأقول لهم: كثرة الطواف أفضل منها، فيذكرون قوله صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة»،
فقلت لهم في أثناء ذلك: محال أن يكون مراد صاحب الشرع العمرة التي يُخرَج لها من مكة إلى أدنى الحل، وأنها تعدل حجة، ثم لا يفعلها هو مدة مقامه بمكة أصلًا، لا قبل الفتح ولا بعده، ولا أحد من أصحابه، مع أنهم أحرص الأمة على الخير، وأعلمهم بمراد الرسول، وأقدرهم على العمل به. ثم مع ذلك يرغبون عن هذا العمل اليسير والأجر العظيم؟ يقدر أن يحج أحدهم في رمضان ثلاثين حجة أو أكثر، ثم لا يأتي منها بحجة واحدة، وتختصون أنتم عنهم بهذا الفضل والثواب، حتى يحصل لأحدكم ستون حجة أو أكثر؟! هذا مما لا يظنّه من له مُسْكة عقل. وإنما خرج كلام النبي صلى الله عليه وسلم على العمرة المعتادة التي فعلها هو وأصحابه، وهي التي أنشؤوا لها السفر من أوطانهم، وبها أمر أُمَّ معقل، وقال لها: «عمرة في رمضان تعدل حجة»، ولم يقل لأهل مكة: اخرجوا إلى أدنى الحلّ فأكثروا من الاعتمار، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة، ولا فهم هذا أحد منهم. وبالله التوفيق.
تهذيب سنن أبي داود - ط عطاءات العلم (2/ 95 - 103)